حرّاس المرافق ورجال الخفارات يقطعون الفراغ ب«الهجيني».. و«سوّاق اللوري» ما يقصّر ب«السواليف» إليها تضرب أكباد الإبل، ومن أجلها تهون المشقات وتقصر المسافات، رغم أنها ليست من أهل الخدر والجمال، ولا ربات الحُسن والدلال، اللائي تغزل بهن شعراء ذلك الزمان، الذي عُرف بأصالة قيمه وجزالة فضائله، ولم يكن هذا الغزل إلاّ للوظيفة التي كانت ومازالت قنطرة للاستقرار النفسي والأمن الاجتماعي، إذ كم سعى الآباء ومن قبلهم الأجداد للحصول عليها والظفر بفرصتها حفاظاً على كرامة النفوس الأبية، ووأد دروب الحاجة والأذية. موظفون يؤدون أعمال النسخ بواسطة الآلة الكاتبة كان الحصول على فرصة عمل في ميادين القطاع العام والخاص يتطلب قطع الأسفار وتجاوز طوابير الانتظار؛ بغية السعي لكسب الخبرات وبذل أسباب القبول والشفاعات، للظفر بالدرة المكنونة واللؤلؤة المصونة المتمثلة في فرصة العمل أياً كان تصنيفها ومكانها، بل كان الساعون إلى الوظيفة يبذلون الغالي والنفيس، يشقون الطرقات ويقطعون الخلوات، إذ كم أحرقت البيد أقدامهم وأشغلت الوظيفة أحلامهم، وهم يبيتون على الطوى وينازعون حرة الفراق والنوى، حتى كان لهم مع الأنين والشوق والحنين تعابير مليحة وتصاوير بديعة تستلهم وجدان الشعراء وتزيد من حنين الأهل والأبناء، ويا لفرحة أحدهم حين المثول أمام لجان القبول التي تعلن أسماء المقبولين، الذين كان لأجسامهم وثبات أحلامهم دور في تميزهم عما سواهم من المتقدمين. فحص طبي وصوّر حال المتقدمين إلى الوظائف رجل منهم حكى لنا حاله مع لجنة القبول في "أرامكو" قبل أكثر من (60) عاماً، وكيف كانوا يخضعون للفحص الطبي واختبار حاسة البصر وهو يقول: أركبونا بالمواتر ودفعونا للدخاتر واشقى من كان فاتر يوم دش المختبر من تقدم ماخذينه جاه بوي وسد عينه والنقاط مقابلينه في أمان وفي سفر عقب ما يوزن غدوا به وومروه بفصخ ثوبه وسدحوه وبرقوا به إن صلح ولا دمر إن دمر واعزتي له راح ثوبه ما يشيله بالمذلة والفشيلة صايبه ضيم وقهر وقال في آخرها يصف باقي خطوات امتحان لجنة القبول: صححوا بالتابعية وارسلوه بلا هديّة قال: وش يبقى عليّه؟ قالوا: قرطاس حمر سنعونا بالستور في نعيم وفي سرور ذا يجي وهذا يدور لين ما بان الأدر السفر إلى مناطق بعيدة بحثاً عن عمل استعجال الرحلة وقال "بدر بن عواد" يعتذر لصديقه ورفيق دربه "غانم العنزي" بعد عدم تمكنه من زيارته رغم نزوله قرب مكانه، بسبب استعجال رفيقه في الرحلة الذي لم يظفر بإجازة رسمية تنجيه من قرار إداري أو تقرير يرفع إلى مديره وقد اعتذر الشاعر بقوله: يا مرحباً تقدير من قلب ولسان بالجمس واللي نجبه باختيارة الشك زايل يا سلايل كحيلان ما هو سبب خصران قطع الزيارة وحنّا الحقيقة يوم زرنا "دغيمان" وأنا مع السوّاق عبري غمارة لا قلت ريّض قال ماشي وعجلان يبي القصيم وحط حبشي يساره راعي عمل ومراقبه منه زعلان لو غاب ساعة ما سلم من قراره ساعي البريد يوصل الرسائل بواسطة "السيكل" عطاء وإنتاج في بادئ العهد بالوظائف الإدارية كان القبول مختصراًً في معظم أحواله على من "يفك الخط"، أو من يستطيع كتابة المراسيل والعرائض، كما كان السؤال عن الموظف مختزلا في قول أحدهم "وش هو من لحية؟"، فإن تم الثناء عليه فقد يجد مكانه في السلم الوظيفي حسب مؤهلاته وخبراته، وإن كان الرد بقول أحدهم: "ترى ما بالعباة أحد" فقد يجد هذا المسكين صعوبة في القبول والالتحاق بالوظيفة، وحينها كانت وظائف العمل الميداني والخدمي تجد زحاماً من قبل المتقدمين لسبب انتشار الأمية قبل أكثر من سبعة عقود، وعليه كانت وظيفة "المراسل" و"المعقب" و"السائق" و"القهوجي" تعج بشباب ذلك الزمان الذين كان الواحد منهم يعمل عمل ثلاثة إلى أربعة موظفين، وكانت قدراته في العطاء والإنتاج محل تقدير وإجلال من قبل رؤسائه ومديروه، وقد وصف الباحثون في تاريخ العمل الإداري ابان عهد المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- كيف كان موظف البرقيات يعمل عمل ثلاثة موظفين، حيث انه يكتب البرقية ثم يرسلها ويتابع وصولها من عدمه، بل ينتظر الرد عليه كي يستقبلها ويسلمها لمن يلزمه الأمر، كما كان يجري عمليات تنظيف وصيانة جهاز "الإبراق" وإعادة تشغيله حين هطول الأمطار، أو تعطل جهاز الاستقبال والإرسال. سوّاق اللوري كان الموظفون وحراس المرافق العامة ورجال الخفارات، يقطعون وقت فراغهم بالقصيد و"الهجيني" والخوض في مغامرات السفر والرحلات، لاسيما حين تروق الأجواء بعد صلاة العشاء ويلتف السمار أمام الدلال و"الوجار"، وفناجين "البن الخولاني"، تدور من الكبير إلى الصغير، يديرها أصغرهم سناً وأقربهم عهداً بالوظيفة، حينها يستلم "سائق اللوري" زمام المجلس، وهو شيخ هرم ضربته السنون والأقدار وعاثت بساحته الدروب والأسفار، هو من بينهم شيخ ذو إجلال وإكبار ودلال ووقار، بدت على جبينه ندبات السنين، وارتسمت على ناظريه ملامح الحنين إلى الصبا ومراتع الهوى، ليحكي لشباب ذلك الزمان، قصصه مع السفريات، ونومه في البراري والخلوات، ويا لجسارة قلبه وهو يقطع وديان الذئاب، ويسمع معازيف الجن ونباح الكلاب، كانت قصص سائق اللوري تشبع فضول زملائه المأمورين، وتقطع عنهم ساعات يوم طويل بين المدير والخفير. استلام الراتب عبر الصرّاف الآلي حيث كانت قبل عقدين من الزمن «كاشاً» قهوة وسكر وأجمعت المراجع ذات الاختصاص أن الوظيفة العامة في بلادنا مرت بمرحلتين متمايزتين، حيث عرفت الوظيفة الحكومية في مرحلتها الأولى من عام 1319ه بأنها مرحلة التكليف المباشر لأداء المهام التي يطلبها الرئيس من مرؤوسيه، وتميزت هذه الأعمال والمهام أنها تحمل صفة المسميات كالقاضي والأمير والمطوع والمؤذن و"الدليلة" و"الخرّاص" الذي يُقدّر ثمار المزارع ومحاصيلها وتحديد ما يجب دفعه عنها، وكل هذه الوظائف لم يكن لها شكل نظامي يؤطر ويحدد مهامها وأنظمتها أو أجورها، التي كانت تصرف وفقاً للإمكانات المتوفرة، إذ لم يكن ثمة عملة نقدية، بل كانت الأجور تصرف كبديلٍ عيني من الحبوب والتمر والقهوة والأرز، أو قد يصرف للعامل أجرة من بهيمة الأنعام كالإبل أو الغنم، أو يعطى حزمة من الحطب أو كيسا من السكر أو الشاي، وفضلاً عن المخصصات اليومية فهنالك ما يسمى "الشرهة" وهي "المنحة" أو"القاعدة" التي تصرف سنوياً أو دورياً لبعض العاملين، ناهيك عن "البروة" التي يقتطعها أمراء المناطق والأقاليم من زكاة المنطقة. وأثبت المخطوطات والوثائق والمكاتبات التي تمت بين الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وبعض أمراء ووجهاء المناطق والأقاليم، أن مرتبات العاملين وأجورهم كانت تصرف مع هلال الشهر أي مطلع كل شهر هجري، بعد أن يعين أمير المنطقة لجنة خاصة لتقدير المصروفات وتحديدها، مع ضرورة توحيد هذه الإجراءات والمقاييس، وتحري سبل العدل والإنصاف في توزيعها وصرفها، هذا على الرغم من قلة ومحدودية مصادر الدخل لموارد الدولة آنذاك. موظف القطار قبل أكثر من أربعة عقود حيث يثقب تذكرة السفر إلى الدمام إصدار الأنظمة وأطلق المؤرخون على المرحلة ما بين 1343ه إلى عام 1347ه مرحلة الاستقرار وإصدار الأنظمة، وهي المرحلة التي وضعت فيها أسس التنظيم والإدارة بدءاً من إقليم الحجاز، وبدأ التنظيم الإداري والمالي يشمل تدريجياً كافة مناطق وأقاليم المملكة، وتعبّر هذه المرحلة عن نقلة نوعية للوظيفة العامة، حيث تميزت سنواتها الأولى من 1343ه إلى 1345ه بصدور التعليمات المؤقتة، وفي السنتين الأخيرتين من هذه المرحلة (1346-1347ه) صدرت التعليمات الأساسية والأنظمة الثابتة التي تكونت من تسعة أقسام ولكل قسم مواده النظامية، ومن خلال هذه التعليمات للموظفين الذين يطلق عليها آنذاك "المأمورين" تم تحديد الشروط والمتطلبات لشغل الوظائف العامة سواء من المواطنين أو أشقائهم المقيمين، وقد استمر العمل بهذا النظام لحين صدور نظام المأمورين عام 1350ه، وهو النظام الخاص بموظفي الدولة، الذي كان باكورة ونواة ما تلاه من الأنظمة للوظيفة العامة، لاسيما أن نظام عام 1345ه حدد مرجع كل وظيفة، بعد أن وزع الوظائف إلى ثلاثة مستويات؛ الأول الذي يمثله مديرو الدوائر والرؤساء والأمراء والقضاة وكبار الحكام الإداريين ومديرو الشرطة يكون مرجعهم الملك نفسه، الثاني هم من يشغلون الوظائف التي يزيد مرتبها عن (400) قرش أميري في الشهر، فتعود إلى النائب العام وهو من ينوب عن الملك في إحدى الأقاليم، في حين يشمل المستوى الثالث على كل وظيفة يكون مرتبها الشهري في حدود (400) قرش أميري، وهي من اختصاص مديري الدوائر والحكام والإداريين مع إبلاغ النيابة العامة بالأمر. الفرص الوظيفية المتاحة أمام الشباب تتطلب تنسيقاً بين الجامعات والقطاع الخاص نظام الموظفين وفي عام 1364ه صدر أول نظام باسم "نظام الموظفين العام" بعد عدة مراحل مر بها، بدايةً من استحداث وظيفة مأمور السجل بديوان النيابة العامة عام 1347ه، التي كانت من صلب مهامها تدوين أسماء الموظفين وأوراقهم وخبراتهم وشهاداتهم لتصبح هذه الوظيفة باكورة عمل وزارة الخدمة المدنية الحالية، ومن خلال استعراض مرتبات وأجور موظفي "ديوان الموظفين العام" يتضح لك قدر فارق الأجور بين موظفي زمان والموظفين حالياً، مع عدم إغفال مؤشر ارتفاع السلع والأجور، ناهيك عن زيادة حجم التضخم في هذا الزمان، إضافةً إلى رسوم الخدمات والتسهيلات البنكية التي ساهمت في زيادة مؤشر الإهدار المالي للفرد، حينها كان رئيس ديوان الموظفين يتقاضى مرتباً شهرياّ قدره (247.5) ريالا، في حين كان مراقب السجلات يستلم (99) ريالا، أما مراقب الملفات فكان مرتبه الشهري يقدر ب (44)، وهذا في عام 1364ه وهي السنة التي صدر فيها أول سلم للرواتب في القطاع العام، ولم يكن في النظام آنذاك أي بدلات سوى "بدل الانتداب"، الذي كان يعرف ب "الماوية"، وكان المرتب الشهري للمرتبة الممتازة يبدأ من (1000) ريال وينتهي ب(1200) ريال، في حين أن موظف المرتبة الحادية عشرة -كانت أقل المراتب حينها- ينحصر راتبه من (60- 70) ريالا في الشهر. التقنية ساعدت الجيل الحالي من الموظفين على إنجاز الأعمال «أرشيف الرياض» سُلّم جديد وفي عام 1373ه تم تطوير وزيادة سلم الرواتب، وإلى عام 1377ه كان موظف الدرجة الممتازة التي يعين بها الوزراء آنذاك يتقاضى في أول مربوط له على الدرجة الثالثة (8000) ريال، في حين كان موظف المرتبة الأولى وهي التي تلي المرتبة الممتازة من حيث السلم الوظيفي فقد كان مرتبها ثابتاً بمقدار (6000) ريال، أما العاشرة وهي آخر السلم آنذاك فكانت تبدأ من (310) إلى (370) ريالا، ويلاحظ هنا وخلال هذه الفترة حجم الزيادة في المرتبات الشهرية للموظفين قياساً بما كانوا عليه في السابق، وفي عام 1391ه تم نقل السلم القديم إلى سلم جديد، تكون فيه المرتبة التاسعة تعادل المرتبة الأولى في السلم الجديد، والثامنة تعادل الثانية، والثالثة تصبح السابعة، وهكذا أصبح مرتب الموظف بالمرتبة الأولى يبدأ بالدرجة الأولى ب (600) ريال ، وينتهي بالدرجة العاشرة ب (915) ريالا، أي بعلاوة سنوية قدرها (35) ، أما المرتبة الخامسة عشرة فتبدأ ب (6610) ريالات وتنتهي بالدرجة الخامسة ب (799) ريالا بعلاوة سنوية قدرها (345) ريالا، ثم توالت الزيادات على سلم الرواتب في عام 1396ه و1397ه إلى عام 1401ه الذي شهد زيادة في ملحوظة في الرواتب، وشهد عام 1415ه زيادة خمس درجات على السلم، حيث تزداد فرصة استمرار العلاوة الشهرية. صفحة التقديم عبر برنامج التوظيف الالكتروني (جدارة) تنوع الكوادر ولك أن تتصور أنه في عام (1391-1392ه) تم توظيف (4765) ما بين موظف وموظفة، وأن العام الذي يليه شهد توظيف أول دفعة من الخريجات الجامعيات حيث بلغ عددهن (117) خريجة، أي أنه من عام 1391ه إلى 1397ه تم تعيين (52385) موظفا وموظفة، وبالمقارنة بمن تم توظيفهم في عام (1416-1417ه) نجد أن الرقم ارتفع إلى (26130) موظفا وموظفة، ولا شك أن هذه المراحل شهدت إضافة بدلات أخرى بحسب المسميات الوظيفية، كما شهدت تنوعا في الكوادر الوظيفية كالكادر التعليمي والكادر الصحي وكادر القضاة وأعضاء هيئة التدريس والكادر العسكري وأعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام وغيرها من الكوادر، ناهيك عن الزيادات الأخيرة في عامي 1426ه وتثبيت بدل غلاء المعيشة وتحديد سقف أدنى للرواتب، ما استدعى تعديل سلم الرواتب بمقتضى الزيادة للمراتب الدنيا. تطور الأساليب وفي زمننا الحالي تحول ديوان الخدمة المدنية العام إلى وزارة الخدمة المدنية، وعلى الرغم أن طوابير الانتظار مازالت عائقاً أمام سرعة توظيف الخريجين لاسيما طلاب وطالبات الجامعات والمعاهد المتخصصة، إلاّ أن أساليب وطرق التقديم وتعبئة سجلات طلبات التوظيف ومتابعة الرقم الوظيفي، أصبحت الآن تدار بمؤشر الحاسوب الشخصي -التقديم إلكترونياً-، ومنها يستطيع المتقدم-طالب الوظيفة- أن يتابع سير معاملته وما تطرحه الوزارة من وظائف جديدة ومستحدثة، من خلال موقع الوزارة الإلكتروني بعد أن يدخل بياناته كاملة في برنامج "جدارة"، ليطّلع على رقمه الوظيفي ومستجدات طلبه، هذا إن لم تصله رسالة إلكترونية على هاتفه المحمول تخبره بموعد اختباره أو قبوله، في حين كان سؤال مثل هذا يستدعي شد الرحال من بلدة إلى بلدة، ومع ذلك لم تُقلل الأساليب الحديثة من معاناة خريجي وخريجات الجامعات في زمننا هذا، الذي غالباً ما يستدعي مشقة السفر والترحال لإتمام المباشرة -إن حل موعدها-، لا سيما حين يتم تعيين المعلمات في المناطق والقرى النائية.