عزالدين إسماعيل في «دمعة للأسى دمعة للفرح» مهموم بمآل الأفكار والأحلام التي طافت في عقول وقلوب الناس قبل رحيلهم لم يعرف عن الناقد المصري الكبير الراحل الدكتور عزالدين إسماعيل أنه شاعر، فقد انصرف طيلة حياته إلى النقد والبحث والتدريس الجامعي ولم ينشر يوماً شعراً، ومع ذلك فقد كان كتابه الأخير قبل ان يتوفى منذ بضع سنوات كتاباً شعرياً وهو ما لم يكن يتوقعه أحد، ولكن يبدو ان الشعر شديد الإغراء في وجدان غير الشعراء أصلاً من المثقفين، ومنهم النقاد الذين كان ينتمي إليهم عز الدين إسماعيل. فها هو الدكتور طه حسين يكتب الشعر في بداية حياته ثم ينصرف عنه لاحقاً وإلى غير رجعة. أما الدكتور عبدالقادر القط، وهو من ألمع النقاد المصريين، فقد أصدر في بداية حياته الأدبية ديوان شعر لينصرف عن الشعر بعد ذلك إلى النقد والبحث. أما عباس محمود العقاد، وهو أحد مؤسسي النقد العربي المعاصر، فقد كان يؤثر لقب الشاعر على أي لقب آخر رغم تعدد ألقابه وأهميتها. ومع أن للعقاد بضعة عشر ديواناً، إلاّ أن الشاعر فيه، في ما يرى بعض النقاد، أضعف جوانب شخصيته الأدبية. وهناك من يصفه «بالشعرور» الذي لم يبق من شعره إلاّ بضع قصائد أو بضعة أبيات. وثمة من يجزم بأنه لم يبق منه كشاعر شيء رغم دواوينه هذه، ورغم مبايعته بامارة الشعر بعد رحيل شوقي. وهناك نقاد كثيرون، غير من ذكرنا، من متوفين وأحياء يداعب الشعر أذهانهم أحياناً فيقرضونه (عن غير توفيق في أغلب الأحيان) وكأن الشعر عندهم أرفع الفنون وأعلاها رتبة، وكأن الناقد أو الدارس أو المثقف عموماً لا تكتمل سيرته الأدبية ان لم يشر إليه كشاعر.. فهل كان عزالدين إسماعيل من هؤلاء النقاد أم أن ما كتبه في كتابه الأخير، وهو ديوان شعر يحمل عنوان: «دمعة للأسى دمعة للفرح»، يرقى إلى مرتبة الشعر، وبذلك يكون صاحبه ناقداً وشاعراً أيضاً؟ الواقع ان من يقرأ «دمعة للأسى دمعة للفرح» يعثر على شاعرية أصيلة مبثوثة في شخصية صاحبه. فعز الدين إسماعيل في هذا الديوان عبارة عن ذات متوترة مشحونة بالمشاعر الحزينة المتشائمة في أكثر الأحيان. وهي ذات لا يفارقها السؤال عن أصل أشياء كثيرة في هذا العالم، ولا تعثر في الوقت نفسه عن أجوبة عن سؤالها أو أسئلتها. والشاعر تأمل في الوجود، وفي الإنسان، وفي المفارقات ومنته في أكثر الأحيان إلى الاعتقاد بعبثية الأشياء ويكون اللا منطق هو المنطق، ويكون اليقين متعذراً، فكأن المحال هو السائد، والنجاة غير ممكنة ويبدو الديوان المقسم إلى عدة فصول منها فصل للبشر وفصل للدنيا وآخر للمعنى ورابع للموت خلاصة نفس معناة بالخاص والعام على السواء، كان لدى صاحبها، لو انصرف إلى الشعر على النحو الذي ينصرف إليه الشعراء في العادة، ما يؤهله ليحمل عن جدارة لقب الشاعر الذي حمله قبيل رحيله، ويحمله الآن عن جدارة بعد رحيله، وكل ذلك استناداً إلى ما ينثره عز الدين إسماعيل في ديوانه من فيض الرؤى والمعاني والاخيلة واستناداً قبل كل شيء إلى شاعرية أصيلة صدرت عنها هذه الرؤى والمعاني والأخيلة. عزالدين إسماعيل في «دمعة للأسى دمعة للفرح» مهموم بمآل الأفكار والأحلام التي طافت في عقول وقلوب الناس قبل رحيلهم. فهو يقول في إحدى قصائد ديوانه: حين تقوم الساعة في كوكبنا وتطيح الروح العلوية بالأرواح البشرية.. تنسفها نسفا أين ستذهب كل ملايين الأفكار الإنسانية؟ وفي قصيدة أخرى: أعرف ان الجسم النابض يخرسه الموت يتحول في القبر ترابا فإلام تؤول ملايين ملايين الأفكار اللائي كن يجلن قبيل الغفوة بعقول ملايين الموتى في صمت؟ وينوع في أبيات أخرى له على هذا الايقاع: لم يذكر يوما دنيانا الجهمة لم يتململ تحت سياط النقمة والبمسة كانت في عينيه سمة وأتى من ينعاه ذات صباح يذكر انه قد مات مختنقاً بالحكمة! وهو هارب من شرنقة المعنى كي يدخل فيها: تزدحم برأسي صور الأشياء/ الكلمات ترهقني، لكن عبثاً يتحرر منها عقلي فأنا أهرب من شرنقة المعنى كي أدخل في شرنقة المعنى! ولكن العجز يبغى سيد الموقف: تتلألأ في خيمة هذا الليل.. نجوم الليل الأبدية تسرق عينيه أحياناً فيحدق يمعن في التحديق يقرأها منتثرة يقرأها ملتئمة لكن عبثاً يقرأ ما سطر في ابهامه! ولا تفارقه الحيرة والحزن وهو يتأمل عينين نجلاوين: حدقت بلا خجل في عينيها النجلاوين فأغراني همس يتمشى سرا فوق الأهداب أرهفت له حدقات القلب وقلت: تكشف يا سر! فانداح السر بقلبي اغرقني ونسيت العينين. ولا استسلام حتى للحظات الهناءة أثناء هذه اللحظات، فالأسئلة المرة لا تبرح الذات وتدعها تستسلم لما يستسلم له الآخرون: من قهوة العينين قد رشفت رشفتين ومن حريق الشفتين قد قبست جمرتين وقلت: فليكن هلاكي ها هنا أو ها هنا فلن يعيش المواقط مرتين! وهو لا يدري كيف أتى إلى هذا العالم، أو كيف سيخرج منه، فهل كانت لحظة ميلادي المبهم هي لحظة موتي المرجأ؟ وقد اجتاز سوراً بعد سور بعد سور، حتى أتى القلعة الحصينة. أسلمه الحراس للحراس، واجتاز بابا بعد باب بعد باب.. وعندما دخلت قاعة الملك/ رأيته تمددا في نزعه الأخير.. وهو يخاف الموت ويرهب الحياة في آن: أنام لا أود ان أفيق وإذ أفيق لا أود ان أنام انت إذن بقدر ما تخاف الموت ترهب الحياة! أما «نهاية اللعبة» عنوان إحدى قصائده فهو يرسمها على هذه الصورة المخضبة بالمأساة: يتسلى عن ضجر اليوم بآمال في اليوم التالي فإذا ما داهمه اليوم التالي بتعاساته راح يمني النفس بأفراح في اليوم التالي فإذا ما.. ليس سوى الموت نهاية هذي اللعبة! تقلب على الديوان كما رأينا نزعة تشاؤم واضحة تكاد تكون القاسم المشترك بين شتى قصائده. فالديوان هو في الواقع «دمعة للأسى» فقط لا غير، لا «دمعة للأسى ودمعة للفرح» كما يشير عنوانه. وحتى إذا أبقينا العنوان كما وضعه صاحبه، فإن الفرح هنا لا يخلو من دمعة بل من دموع. فالدموع تنهمر من الكلمات والأفكار حتى كأن لا ابتسامة قابلة لأن ترتسم على فم أو على شفتين. ولكن الشعر يعمر الكلمات والأفكار، كما عمر وجدان صاحبه على مدى حياته دون ان يعلن عنه فمضى بصمت الشاعر وجلال الشعر ومجده، وكأن عز الدين إسماعيل كان ناقداً في الظاهر، وشاعراً في حقيقة أمره!