انتشرت مقاطع تسجيلية لشبان مسملين في لندن يزعمون أنهم أفراد شرطة دينية هدفها تطبيق نمط الحياة الإسلامي في بعض الأحياء. يوقفون النساء ويطلبون منهن تبديل ملابسهن أو عدم العودة للمكان مرة أخرى. إحدى النساء الإنجليزيات المصدومات قالت "ولكن هذه بريطانيا العظمى!". بريطانيا العظمى تكفل الحريات الدينية والشخصية والحقوق المدنية للمواطنين والمقيمين على أراضيها، وهي نفس الحريات والحقوق التي يملكها أصحاب هذه "الشرطة الدينية" ولكنهم قرروا بسهولة انتهاكها. من الأكيد أن الشرطة الإنجليزية ستقبض على أفراد هذه الشرطة المزيفة وتزجهم بالسجن، ولكن القصة تطرح من جديد مسألة اندماج المسملين في المجتمعات الغربية أو حتى الشرقية. القضية متعلقة بالمسلمين أكثر من غيرهم. تقريباً لا يوجد هناك مشاكل اندماج لجاليات أخرى كبيرة مثل الجالية الصينية أو الكورية سواء في أوروبا وأمريكا، ولم نسمع أبداً أن مجموعة من الصينيين شكلت شرطة أو عصابة تفرض على الناس ما يلبسون ويشربون ويأكلون، بل الذي يفعله الصينيون هو ممارسة عادتهم القديمة في البيع والشراء وهناك أحياء تجارية صينية شهيرة منتشرة في عدد من المدن الأمريكية والأوروبية. فقط في أمريكا هناك مخاوف مسموعة من تصاعد الهجرة اللاتينية وتكوينها مجتمعات منعزلة لا تتكلم حتى اللغة الإنجليزية. لكن لا أحد يعتقد في أمريكا أن مهاجري المكسيك مثلاً يهددون القيم المدنية وحرية الاختيار والتعبير. المشكلة تتعلق فينا، ولكن الحقيقة أن المسلمين لم ينجحوا في التعايش مع أنفسهم قبل أن يفشلوا في الاندماج مع الآخرين. أنظر مثلًا إلى التحريض الطائفي المتبادل الذي تجيشه وتصعده محطات فضائية رسالتها الأساسية بث الكراهية والتعصب. أنظر أيضا مثلا حملات التفسيق والتكفير المستمرة للمختلفين قليلاً في الرأي والتي تصاعدت في مواقع التواصل الاجتماعي. أنظر إلى العمليات الإرهابية التي تحدث داخل الدول المسلمة التي يذهب ضحيتها المئات. هناك انقسام واضح وغياب للتعايش داخل الشعوب المسلمة نفسها، كيف يمكن أن نتحدث عن اندماج مع دول متطورة مثل انجلترا أو هولندا. المشكلة أساساً في طريقة التفكير القديمة التي لا ترى العالم إلا من خلال الماضي. حتى اللغة التي استخدمها في هذا المقال تعود للقرون الوسطى، فأنا أتحدث عن المسلمين أو العالم الإسلامي ولكن لا أحد في الصحافة الغربية أو الشرق آسيوية يتكلم عن العالم المسيحي أو العالم البوذي أو اليهودي. مثل هذا التقسيم الجغرافي المبني على الخطوط الدينية تلاشى منذ زمن طويل ويكفي أن نعرف أن أكثر من 44 مليون مسلم يعيشون في أوروبا فقط مشكلين 6٪ من إجمالي عدد السكان. البشرية كلها تختلط مع بعضها بشكل غير مسبوق وذلك بسبب تطور التقنية وسهولة السفر والتواصل عبر اللغة الانجليزية، اللغة العولمية الأولى التي يتحدثها كلغة أولى أو ثانية مايقارب البليون انسان. لكن العقلية المنحبسة في الماضي البعيد والتي تستمد أفكارها ورؤيتها منه تواجه أزمة مع الداخل كما يحدث بالانقسام الطائفي أو التكفير وتصطدم بالخارج خصوصا بأوروبا التي مرت بثورات علمية وفكرية جذرية هزمت التعصب الديني وأسست للعالم الحديث الذي نعيش فيه الآن بما فيه من سيارات وجامعات وطرق وأدوية واتصالات. تغير العالم كما نعرفه اليوم بدأ قبل وقت طويل. هولندا كتبت دستورها الذي يكفل حرية الأديان عام 1579 والسويد أول من حاربت الأمية في التاريخ ولم يبق منها سوى 20٪ عام 1680 والثورة الصناعية الإنجليزية غيرت وجه العالم للأبد وفرنسا أول من وعت خطورة الزيادة السكانية فحدت من النسل. لم تعد الأرض محور الكون بل نقطة صغيرة فيه، واكتشف أن هناك عالماً غامضاً داخلنا اسمه اللاوعي يؤثر بعمق على شخصياتنا. تطور دراسة عقل الانسان وعرفنا أن حجمه الكبير - قياساً لجسد الانسان - منحه القدرة على التفكير ( اكتشاف الانسان للنار جعله يأكل اللحم الناضج بعد أن كان يأكله نيئاً مما أدى إلى نمو عقله). أشياء كثيرة غيرت العالم القديم الذي مات فعلًا، ولكن مازلنا مرتبطين فيه ونتصارع، بل ونقتل الآخرين. بما أننا نعيش بعالم واحد الآن قربته السفر والتقنية حدث هذا التصادم بين عقلية قديمة جامدة حول تصور معين عن الحياة والانسان وعقلية تطورت وتحولت مع الوقت ومازالت تتحول. طريقة التفكير القديمة ستصطدم بكل هذا العالم الجديد عليها الذي انتهت منه الصراعات الطائفية أو الدينية والتفسيرات غير العلمية للظواهر الطبيعية. ستشعر بالخيبة والإحساس بالهزيمة أمام الإنجازات الكبيرة من جامعات متطورة وشركات ضخمة وناطحات سحب هائلة وإنجازات علمية مذهلة وحتى أحداث صادمة (مثل قفزة فيلكس من حافة الفضاء) وستنغمس في وهم الماضي بحثا عن العزاء أو ستسعى واهمة لهدم هذا العالم "المادي" - كما تسميه بهدف تلويثه - وذلك عبر استخدام منتجات هذه الحضارة نفسها. محمد عطا الذي عاش بألمانيا استخدم الطائرات المدنية أحد أبدع منتجات الحضارة لهدمها متسبباً بقتل آلاف الأبرياء على اعتبار أنهم مجرد كفار لا أي قيمة. يعيش في قلب الحضارة ولكن عقله منغمس في الماضي. نفس هذا الرفض نراه في الجماعة النيجيرية " بوكو حرام" التي تحرم التعليم "الغربي" وقتلت الآلاف من الآبرياء (3000 قتيل خلال خمسة أعوام فقط) ونراه مع هذه الشرطة الدينية الطالبانية التي لا تعترف بأي قيمة وخيار حر للانسان حتى في لبسه.. وأين في قلب لندن، لذا اعترضت المرأة قائلةً "ولكنها بريطانيا!". أي أحد أهم الأماكن التي صنعت العالم الجديد، كيف يمكن إعادتها للماضي الذي دفنته منذ قرون؟ ليس صحيحاً ما يروجه البعض أن هناك عوامل أخرى هي السبب. يقولون معتذرين أن هناك ظلماً وقع على العرب والمسلمين وهو ما أدى إلى كل ذلك الاحساس بالعزلة وعدم الرغبة في الاندماج أو حتى إلى القيام بأعمال عنف. المسلمون منقسمون منذ قرون طويلة قبل حتى أن نحتك بالغرب ودعاة التزمت أكثر بكثير من دعاة العقل والتسامح. الإحساس بالمظلومية وضع أيضاً كعذر للوم الآخرين وليس لوم أنفسنا. اليابان أحتلت والهند أستعمرت ولكن لم نر مجموعات جهادية يابانية أو هندية، بل اندمجتا بالحياة المعاصرة الجديدة وقبلتا منطقها القائم على التنافس الحضاري. طبعا هناك من يعتقد أننا تقدمنا أكثر من اللازم ويطالب بأن نعود للماضي! وهؤلاء يستخدمون كل وسائل التقنية الحديثة - حتى توتير - للرجوع للوراء! بدون عقول تحترم العلم وقلوب متسامحة وبفكر عصري يؤمن بالتواضع ونقد الذات والتعلم من الآخرين سنكون كمن يهدد العالم المتقدم بلف حبل المشنقة حول عنقه!