ككل الراغبين في تعلم اللغة الإنجليزية بوتيرة أسرع ، سكنت في إحدى المرات مع عائلة أمريكية . تنتمي هذه العائلة لطائفة المرمون وهى طائفة مسيحية متزمتة. متزمتة لدرجة تضمن لنفسها فقط الخلاص والدخول إلى الجنة أما الطوائف المسيحية الأخرى "فبعضها إلى النار وبعضها في غرف الانتظار". كماقال لي أب العائلة عندما سألته عن مصير الطوائف المسيحية الأخرى بالنسبة لإيمانهم. صدمتني هذه الإجابة الجازمة ، وبعد ذلك بلعت ريقي الناشف وسألت السؤال الذي تتوقعونه الآن . قلت له " وماذا عني أنا المسلم .. أين سأذهب ؟ إلى النار أيضا " . التفت إليّ وقال بنبرة ساخرة ولكن بإيمان أكيد " أعرف أنك شاب لطيف. ولكن نعم أنت مسلم ومصيرك هو الجحيم ياعزيزي". في الصباح عندما قابلت مديرة المعهد الإدارية سردت عليها القصة وقلت لها معترضاً " لقد كفروني " وردت عليّ ساخرة " غريب !! المفترض أنت من يقوم بتكفيرهم ؟!" . نعم صحيح ، المفروض الآن هم الكفار وليس أنا ولكن بحسب منطق الأغلبية أصبحت أنا الكافر وهم المؤمنين. هكذا كانوا يروني . ففي العادة كنا نرى الأجانب وخصوصاً الأمريكان والآوروبيين منذ الصغر على أنهم كفار مصيرهم النار. على مستوى نفسي تم شحنا بالإحساس البهيمي للمختلفين دينياً. فكل شخص لا يحمل في صدره العقيدة ذاتها اللي في صدورنا هو أقل من إنسان وأقرب لصورة البهيمة. لو قمت الآن ب"جوجلة" كلمة كافر فسيظهر لك عدد هائل من النتائج تؤكد على مثل هذه الأفكار الكارهة. ولكن كل الحال انقلب الآن . أنا الكافر والبهيمة وسط هذه العائلة المؤمنة ( بعد مدة سكن لدينا طالب صيني . اكتفشنا بعد أول حديث معه على العشاء أنه لا يعرف ماهو أساس الأديان التوحيدية . قمت أنا والعائلة بتكفيره!). مع أن العائلة كانت لطيفة ومتجاوبة إلا أنه طاردني شعور بأني منبوذ ومهما أبديت مع أدب ولياقة إلا أني بأعينهم الكافر الذي لا يعرف الحق ولا يدرك ماهو مصيره البائس . في أحد الحوارات على مائدة العشاء قلت لهم " أليس المهم أن يكون الشخص صادقاً ولا يظلم الآخرين بغض النظر عن دينه ؟" بدت حجة مقنعة لكن اصطدمت بسرعة بقناعتهم الموروثة المطمئنة. بعد مدة بدأت أخفف من مثل هذا الشعور الذي يحاصرني بعدما توصلت لقناعة "ما في اليد حيلة" . ولكن بعد مدة أصبحت أنظر إلى المسألة كلها من زاوية أخرى. أصحبت أنا المستفيد من هذا التكفير. التفكير في عقلية المؤمن والكافر يحرم الشخص الذي يؤمن بها من الاستفادة من اختلاف العالم المتنوع. المؤمنون بهذه العقلية لا يستمعون لهم ويغلقون أسماعهم ويمضون بأفكارهم إلى النهاية . مثلا في هذه العائلة كنا الكافرين الاثنين ( أنا وصاحبي الصيني ) منفتحين ومتطلعين لنتعلم أشياء جديدة من العائلة أو من الأصدقاء الذين يزورونهم . ولكن بالمقابل لم يكونوا هم ، بسبب العازل التكفيري داخل عقولهم ، مستعدين لسماع أي جديد منا . كان وضعي في العائلة فقط قصة رمزية لقصة أكبر وهي قصة التسامح والتعصب ، الاندماج او الانعزال ، الانفاق والاعتدال حول العالم. في الغالب ان المتسامحين هم الأكثر تطوراً وازدهاراً علمياً وثقافياً لأنهم فتحتوا كل الأبواب والنوافذ. حينها تذكرت أجددانا العظماء الذين غزوا العالم بالعلوم والفلسفة التي وصفتهم أوروبا القرون الوسطى الغارقة بالظلام حينها بالكفار المهرطقين ( بالفعل كانوا يصفونهم حرفياً بالكفار كما نصف نحن الأجانب الآن) .ولكن هؤلاء الذين ما زلنا نفخر بهم ونحاول أن نستلهم تجربتهم كانوا واثقين ومتسامحين على الرغم من تكفيرهم. قرطبة التي كانت منارة العلم والتسامح تعكس بوضوح هذه الفكرة. قرطبة شهدت ظهور فلاسفة كبار مثل ابن مسرة وابن حزم وابن باجة وابن الطفيل وابن رشد وابن عربي أما من الجهة اليهودية فكان هناك موسى بن ميمون وابن غابيرول. وكذلك كان هناك مفكرون مسيحيون. لقد شهدت قرطبة تسامحاً دينياً وثراء فكريا وحضارياً ولكن بعد موت ابن الخليفة عبدالرحمن الثالث (الناصر) الحكم الثاني عام 976 بدأت الأصولية بخنقها ناصبة محاكم التفتيش للفلاسفة والعلماء مما اضطرهم إلى الهرب مثل عالم الهندسة عبدالرحمن الملقب ب«أقليدس الاسباني» أو سعيد الحمار مؤلف رسالة في الموسيقى وكتابا بالفلسفة بعنوان « شجرة العلم» اضطر إلى الهرب إلى صقلية. لاشك أن سيطرة الظلام والجهل والتعصب تؤدي إلى التفكك والنهاية المحتومة كما حدث لقرطبة.. لكن هذا يعد ماضيا بعيدا بالنسبة لنا والحديث عنه فقط تحول كذكريات جميلة فائدتها الوحيدة أنها تحافظ على توازننا النفسي بأنه ( بين أمم مختلفة) كان لنا أسلاف غيروا وجه العالم. ولكن هذا الواقع في أوروبا وأمريكا وغيرها من البلدان التي لم تعد تخنق نفسها بحواجز التكفير وتقسيم الناس. سيقول أحد وماذا عن هذه العائلة التي تتحدث عنها. في الواقع ان هذه العائلة ( التكفيرية الناعمة) تعبر عن الاستثناء القليل جدا. بعد ذلك انتقلت إلى أكثر من عائلة وكانت كلها بلا استثناء متسامحة وتؤثر فيها الثقافة الإنسانية بشكل واضح ولم يحكموا عليّ مرة بسبب ديني أو ثقافتي.