وبما أن عمود الثقافة العربية هو الدين الإسلامي، وبما أن الوسيلة التي استخدمت لتبرير الظلم والاستبداد كانت اللغة الدينية، والمبررات الفقهية، فقد سعى محمد عبده إلى تطوير الخطاب الديني، وإلى إعادة ترتيبه وقراءته بروح متجردة، لقد كان الفكر الديني في عصر النهضة مسكونا بقضية الإصلاح السياسي والحريات، بمعنى إصلاح الوضع السياسي القائم ليصبح موائما لشروط النهضة والتقدم، حسب مقاييس النهوض العالمية التي فرضتها الحضارة الغربية المسيطرة والغازية، فهو مؤمن بالمؤسسات القائمة ولكنه يدعو بشدة لوجوب إصلاحها وتطويرها، لكن الفكر الديني الذي تمثله حركات الإسلام السياسي المعاصرة وحركات العنف الديني، لم يعد مهموما أصلا بالتقدم هذه واحدة، والثانية أنه لا يسعى لإصلاح المؤسسات السياسية القائمة بل هو معني كلياً بإزاحة الأنظمة السياسية والوصول للسلطة لتطبيق أجندته الخاصة، التي لا تختلف عن الفساد السياسي القائم في أكثر بلدان العالم الإسلامي إلا أنها ستكون أكثر استبدادا لأنها تحكم باسم الله. السلطة السياسية أو «الحكم» مرتبط على طول تاريخنا الإسلامي بالقوة لا بالعدل، إذا استثنينا الفترة الراشدية الأولى من تاريخ الإسلام، وومضات هنا وهناك مرّت سريعا في تاريخ المسلمين، فمنذ الامويين كان الحكم لقوة السيف لا لمنطق العقل ولا لرعاية العدل ذلك أنهم «كانوا أولي نزعة بدوية صريحة، فكانوا لا يبالون بما يقول الفقهاء وأهل الدين، جل اهتمامهم كان منصرفا إلى تدعيم ملكهم بحدّ السيف على الطريقة البدوية القديمة» كما يشير على الوردي في كتابه وعاظ السلاطين 36. وعلى ذلك فقس بقية التاريخ، العباسيون انتصروا بالقوة، والمماليك فعلوا الشيء ذاته، والعثمانيون ساروا على الطريق نفسه، وبقية التفصيلات التاريخية تشير بشكل أو بآخر لذات المعنى الذي أشرنا له سابقا. نعم لقد كان العدل قيمة أساسية في «الوحي» و «النص الديني» في بداية الإسلام، كما كان تطبيقا وممارسة، ولكن ذلك كله فقد قيمته تاريخيا، وحلّت القوة والسطوة محل العدل والرحمة، والأخطر أن ذلك كله تمّ باسم الله وبتأصيل العلماء وتنظيرات الفقهاء التي لا تقترب من شهوات السلطة والسيطرة إلا بقدر ما تبتعد عن الشرع والدين. ولذلك فإن صياغة النظرية السياسية دينيا طغت عليها في المرحلة الأولى وبرعاية أموية لغة البداوة، ثم طغت عليها برعاية عبّاسية لغة كسروية، لقد كانت تختلف المبررات ولكن الغاية كانت دائما واحدة «السلطة»، وكانت الوسيلة أيضا واحدة «القوة». لئن كان الظلم والاستبداد طاغيا في حياة البشرية جمعاء، فإن له في تاريخنا الإسلامي حضوره الذي لا ينكر، ونظرة على أي كتاب يتناول تاريخنا توضح ذلك بجلاء، كتب التاريخ مليئة، وكتب التراجم كذلك، وكتب الفقهاء، وللاختصار فإن عبّود الشالجي العالم العراقي جمع كثيراً من ذلك في كتابه الكبير «موسوعة العذاب»، وتصفح هذا الكتاب مع ما يثيره من الغثيان والألم من شدة جبروت ولا إنسانية ما يقرأ إلا أنه يحس بالمقابل بغضب دفين على بشر ومجتمعات بلغ بها الضعف والخور والخضوع هذا المبلغ المتدني. لقد أدرك مفكرو عصر النهضة الإسلامية قبل ما يقارب القرن من الزمان هذه الحقيقة خير إدراك، ولم يكونوا بحاجة لقراءة التاريخ لاكتشاف الظلم، فقد ملأ السلطان العثماني وولاته الدنيا بالظلم والجبروت واحتقار الإنسان والمجتمعات، وكان ضجيج الناس من الظلم عالياً، وفي تلك اللحظة اكتشف المفكرون العرب أمة أخرى وحضارة أخرى، عرفوها ظالمة لهم ولكنها ظالمة غازية مرفوضة، الهم في دفعها وطردها، وليست ظالمة حاكمة الهم في إصلاحها وتطويرها، ثم عرفوها أكثر حين رحل بعضهم إليها وسكن فيها ورأى بعينيه كيف تسوس شعوبها وكيف ترتب أولياتها وتصنع مجدها وتقدمها، وكيف يعيش الإنسان فيها حراً كريما مصاناً. لقد عملت المقارنة بما يجري هناك وما يجري هنا عملها في عقول تلك النخبة المفكرة، فكتبت وتحدثت وطالبت، بدءا من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والطهطاوي والكواكبي وغيرهم كثير، مع تركيز كبير على أن المشكلة هي مشكلة سياسية بالدرجة الأولى، بمعنى أن السياسية القائمة على الاستبداد هي المشكلة الأولى والسبب الرئيس في تقدم الغرب وتخلف المسلمين، ثم تحوّلت هذه النظرة لدى بعض من طال بهم العمر ليروا ردود أفعال المجتمعات على طروحاتهم إلى أن أصبحت المشكلة في الأصل مشكلة في الثقافة نفسها، الثقافة التي تربّى عليها المجتمع قرونا وأشربها قلبه وعقله وتفكيره، فسعوا إلى الاهتمام بتغيير الثقافة والتركيز على تطوير المجتمعات قبل تطوير السياسة وإصلاحها، وجاءت عبارة الإمام محمد عبده «لعن الله ساس ويسوس وسياسية» في هذا السياق. وبما أن عمود الثقافة العربية هو الدين الإسلامي، وبما أن الوسيلة التي استخدمت لتبرير الظلم والاستبداد كانت اللغة الدينية، والمبررات الفقهية، فقد سعى محمد عبده إلى تطوير الخطاب الديني، وإلى إعادة ترتيبه وقراءته بروح متجردة، لا تنتقد التاريخ والتطبيق إلا بقدر ما تقدس النص وتلوذ به، فكرّس بقية حياته في تطوير مناهج التعليم وتطوير الثقافة وبناء مجتمعات جديدة تؤمن بحق الإنسان في العيش بكرامة وحرية وأن ذلك مما جاء به الدين الإسلامي ودعا إليه وليس فقط بتأثير من الحضور الغربي الطاغي على المشهد العالمي آنذاك، وربما زاد الإحساس بالمسببات الدينية لمشكلة الاستبداد لدى بعض المفكرين بعد الإمام محمد عبده فكتب علي عبدالرازق كتابه المثير للجدل «الإسلام وأصول الحكم». أثار هذا الحديث ما ظللت أراقبه منذ فترة ليست بالقصيرة لما يحدث في المغرب، من تجربة جديدة ومثيرة على مستوى العالم العربي، لقد بدأ العهد الجديد محاولة جادة وجريئة للمصالحة بين مؤسسة الحكم والمجتمع، في ظاهرة لا تخطئها العين، الكتب في الشوارع والبرامج في أجهزة الإعلام والمقالات والتحقيقات في الصحف، كلها تحاكم مرحلة كاملة من تاريخ البلاد الحديث، كان فيها الكثير من الأخطاء والظلم والقهر واحتقار الإنسان، سعيا لتجاوزها ومعالجتها والسير بخطى ثابتة نحو بناء زمن قادم يكون أجمل وأبهى. وكتعليق أخير فقد كنت يوما في حديث مع مسئول عربي كبير، قال لي فيه: إن الإنسان بحاجة لثلاث مسكن مناسب، ومال كاف، وأمن يحميه، وتحت هذه الثلاث تندرج طموحات الإنسان في الحرية والكرامة والعيش الهنيء.