ما الذي تعنيه مؤشرات النمو الاقتصادي، أو البيانات الموضحة لخريطة الثروات في أي مكان من هذا العالم، ما لم تخفف بدورها من معاناة الفقراء، وتؤثر إيجاباً في محاربة الفقر، وتسهم في مشروعات التنمية البشرية؟. مؤخراً، كشف تقرير للأمم المتحدة حول "حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم 2012" عن حقائق مرعبة؛ إذ أن نحو 870 مليون شخص في العالم اليوم يعانون من نقص الغذاء المزمن، وإن أكثر من 2.5 مليون طفل يموتون سنوياً جرّاء نقص الغذاء أو انعدامه، وعلى الرغم من أن العالم اليوم بهيئاته ومنظماته وأنظمته السياسية والاقتصادية يملك من الوسائل والمعرفة ما يمكنه من القضاء كلياً على هذه المأساة إلا أنه يفشل في ذلك حتى اللحظة. من ناحية أخرى- وعلى نحو مغاير كلياً - كشف تقرير بريطاني صادر عن "مؤسسة المهندسين الميكانيكيين- لندن" بأن كميات تعادل نصف المواد الغذائية المنتجة عالمياً تلقى في القمامة؛ ففي المملكة المتحدة لا يتم حصد 30% من المحاصيل أساساً، لعدم مطابقتها معايير الشكل والمظهر التي يضعها تجار التجزئة على المنتجات، عوضاً عما يتم إتلافه من الغذاء قبل وصوله إلى المستهلك وبعد شرائه. أما في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا، فإن مصير 50% من المواد الغذائية المنتجة ينتهي إلى مكب النفايات، كذلك حال كميات أخرى من الغذاء تصل حتى 80% من الإنتاج الكلي في دول جنوب شرق آسيا. وليست هذه النسب مفزعة بقدر المسببات التي أدت إليها، فهي تجعلنا نشك في إنسانية الإنسان إذا استمر الأمرعلى هذا النحو من الفوضى؛ إذ إنه لا معنى يمكن فهمه من سلوك تجار التجزئة في بريطانيا على سبيل المثال، وتلك المعايير الجمالية التي توضع على أصناف الأطعمة، وكأنها ستعرض في المتاحف لا المتاجر. فضلاً عن ثقافة الاستهلاك الجشعة المتبعة في كثير من المجتمعات،لا سيما في أمريكا شمالاً وما يقابلها من نقص حاد في الغذاء على الجنوب اللاتيني منها. كذلك في دول جنوب شرق آسيا، حيث تتلف عشرات الملايين من الأطنان سنوياً لانعدام الوسائل المطلوبة لتخزين الأغذية وحفظها على نحو سليم، ولضعف أنظمة النقل والزراعة الحديثة، وسياسات الاحتكار الممارسة من قبل التجار. إننا لنقف مدهوشين أمام هذين التقريرين السالف ذكرهما، حين نستخلص منهما أن الجوع الواقع على مئات الملايين من البشر ليس من صنع السياسات الاقتصادية الخاطئة أو الحروب أو الجهل والتخلف فقط، أو أنه قدر محتوم عليهم بالضرورة ولا يمكن فعل شيء تجاهه، بل هو تقدير خاطئ فقط، يدل عليه سلوكنا الاستهلاكي على المستويات كافة: الفردي والمجتمعي والمؤسسي؛ فمن مات جوعاً إنما قضى لامتناع الغذاء عنه في حوزة من لا يحتاجه، وليس لقلته أو انعدامه. إن ما يحصل مع أولئك الجوعى حين يموتون، يشبه تلك "النيران الصديقة" في الحروب؛ إذ إنها مميتة على نحو أكثر إيلاماً لأنها صديقة!. وعند الوقوف على حقيقة أن ملياري طن من الغذاء سنوياً، تتحول إلى نفايات ولا تصل إلى فم إنسان، فإننا نسأل: هل سيبقى أي جائع على هذه الأرض لو أن هناك توجيهاً لهذا الفائض الهائل من الطعام، ليكون على موائد الجوعى بدل أن يتم إتلافها بشكل يمثل أبشع صور الهدر الممارس من الإنسان. في الحقيقة لم أتمكن من فهم كيف يموت الناس جوعاً، لأننا اعتدنا سماع هذه العبارة مجازاً بما يدل على الجوع الشديد دون الموت بسببه، لكنني أفهم تماماً الآن أن الملايين يموتون فعلاً كل عام، بل سيكون المئات منهم قد نهشتهم أظفار الجوع في نهاية هذا اليوم حتماً، ولن يسمع أحد صرخاتهم، لأن موت الجائع صامت كالجليد!!. *رئيس تحرير ( فوربس- الشرق الأوسط)