يعتبر "الشباب" أو كما يقال "ربيع العمر" من أجمل وأهم المراحل التي نمر بها؛ كونها مليئة بالطاقة والحيوية، ومتوقدة بالحماس والقوة، لهذا يفترض أن يعيش "جيل الشباب" في ظلال تلك الإيجابية، مستغلاً كل ما أتيح أمامه من فرص وطاقات لن تعود مع تقدمه بالعمر، لهذا فإنّ أسوأ ما يمكن أن يمارسه البعض من فئة الشباب في تلك المرحلة هو إهدار طاقاتهم أو تفريغها بشكل سلبي. وأصبح من السهل ملاحظة محاولات الشباب إلى لفت الأنظار، من خلال "استعراض الذات" الذي صار الشغل الشاغل للبعض منهم، فصور استعراضهم لمظهرهم العام أو لمهارتهم وقدراتهم الذاتية تكررت بشكل أكثر من السابق، بل أصبحت أكثر خطورة ومجازفة بحياتهم وحياة من حولهم، فهذا شاب كان ضحية لمحاولة لفت الانتباه وهو يستعرض مهاراته في التفحيط، وتلك فتاة ضيعت أوقاتها باللهث خلف مصطلحات مزيفة من تفخيم "الأنا" وصب هالة من المفردات حولها، ليكونوا في النهاية أصغر مفردة في العبارة التي تكونت حول أنفسهم.. نحن كمجتمع نريد أن يصنع هؤلاء الشباب عناوين فكرية واجتماعية عظيمة، ويكونوا الفارق الأكبر فيها وليس الأتفه، فالمجتمع ليس ضد تفريغ الطاقات لأنّ هذه سنة الحياة، لكنه يريدها في الخير والبناء والإعمار. شبان وشابات يفرغون طاقاتهم بشكل خاطئ ومخيف رغم تجاوز كثير منهم مرحلة المراهقة فراغ وإحباط وذكرت "أمال السحلي" -مشرفة تربوية بتعليم تبوك- أنّ استعراض الذات لدى الشباب ليس جديداً على المجتمع، إلاّ أنّه تجاوز مجالات أخرى مختلفة عن مظاهر الاستعراض التي كان يمارسها الشباب في السابق؛ إذ كانت تقتصر على القوة العضلية، وبعض التقليعات الغريبة في الملابس، وقصات الشعر، مبيّنةً أنّ جيل اليوم أصبح أكثر تفكيراً وبحثاً عن الشكليات والمظاهر المزيفة التي يحاول من خلالها أن يفرغ طاقته، طمعاً في التميز ونيل إعجاب الآخرين به، والذي غالباً لا يكون إلاّ من خلال المباهاة والتفاخر بكل ما يستطيع الوصول إليه، لهذا هيمنت تلك الاستعراضات على تصرفاتهم وسلوكياتهم في مختلف الأماكن العامة، وحتى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال طريقة حديثهم وحوارهم مع الآخرين، ونقاشاتهم في المسائل الجادة أو السطحية، أو الحديث دون توقف عن الإنجازات ومشاعر التفوق على الآخرين، أو استعراض قدراتهم الذاتية ومدى ثقافتهم واتساع علاقاتهم الاجتماعية، التي تربطهم بأصحاب السلطة أو المال أو الجاه، وكذلك بعدد متابعيهم في تلك المواقع كما يمارسون استعراضهم بسياراتهم الفارهه أو بهواياتهم الخطرة التي تهدد حياتهم وحياة من حولهم، كما يحرص البعض منهم على إبراز واستعراض أجهزة الهواتف المحمولة في أي مكان يتواجد به، بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى أن البعض منهم يتظاهر بانشغاله بتعدد أجهزته وكثافة الاتصالات عليه، وذلك بشكل استعراضي يوحي للآخرين على أهمية هذا الشخص وتعدد مسؤولياته وهو في واقع الحال يشكو الفراغ والإحباط. شبان يستعرضون أمام فتيات داخل أحد المولات «أرشيف الرياض» تقدير الذات وأوضحت "أمال" أنّ ثقافة تقييم الناس من خلال المظاهر الاجتماعية أحد أهم الأسباب التي قادت الشباب إلى السير وراء الاستعراضات، حيث ساهمت التربية الأسرية والاجتماعية في غرس مفهومها لدى الكثير منهم منذ أن كانوا أطفالاً، من خلال تأثرهم بتصرفات ذويهم، إذ يعتقد الكثير منهم أنّ أول ما يلفت الانتباه هو المظهر العام، وبالتالي يتم التعامل معه على هذا الأساس، لهذا يندفع البعض منهم إلى اقتناء أشياء ليست في حدود إمكاناتهم المادية؛ اعتقاداً منهم أنّ عدم امتلاكهم لذلك الشيء يقلل من شأنهم لدى الآخرين أو خوفاً من أن لا يكونوا مقبولين اجتماعياً، داعيةً كل شاب وشابة للبحث عن أفضل وأنسب الأعمال لاستغلال أوقات الفراغ، وأن لا يجعلوا قلة ومحدودية الأماكن الترفيهية والرياضية شماعة لتعليق أخطائهم، أو ذريعة لعدم توفير البدائل الصحيحة لاستثمار طاقاتهم، وليحرص كلٌ منهم على التعرف على إمكاناته واستغلالها دون أن ينتظر أحداً يساعده، وأن يقتنع بذاته وبما يمتلكه من صفات تميزه عن الآخرين، فالاقتناع التام بذلك يمنح الشخص القدرة على احترام وتقدير ذاتهم. اضطراب نفسي ولفت "د.أحمد الحريري" -باحث ومعالج في الشؤون النفسية والاجتماعية- إلى وجود عدد من المميزات والخصائص والصفات التي تظهر في كل مرحلة عمرية من مراحل عمر الإنسان، ولعل من أهمها حب الظهور، والمباهاة، ولفت الانتباه، بالإضافة إلى تصرفات أخرى يحاول من خلالها الشاب إبراز ذاته واستعراض قوته وما لديه من إمكانات، معتبراً أنّ هذا الأمر إلى حد ما معقول ومقبول، لكن قد يتعدى ذلك إلى محاولات غير منطقية أو مقبولة تصل إلى درجة التخريب، والعبث، وتحطيم الممتلكات، وكسر القوانين؛ مثل التفحيط وإيذاء المارة، والتحرش، وغيرها من السلوكيات الجانحة التي قد تدل على اختلال سلوكي أو اضطراب نفسي. استعراض ورقص أمام الملأ رغم خطورة وجوده أعلى السيارة قلّة اهتمام ونوّه "د.الحريري" بأنّ الكثير من الدارسات أولت تلك القضية اهتماماً كبيراً، حيث قدمت الكثير من التفسيرات النفسية والاجتماعية والبيولوجية لأسباب تلك السلوكيات، وكان منها على سبيل الشعور بالنقص، والتعويض المفرط، والتمركز حول الذات، والأنانية، والإحباط، والاضطرابات النفسية، والتقليد، والمحاكاة، وأزمات الهوية، وفقدان الثقة بالنفس، والفراغ، وقلة الاهتمامات، وضعف دور الأسرة والمدرسة، وتأثير الرفقة وأصدقاء الحي أو القرية، وضعف القيم الاجتماعية والدينية، إلى غير ذلك من التفسيرات البيولوجية مثل؛ الخلل الجيني، والاضطراب الهرموني الناتج عن الأمراض، وتعاطي المخدرات، لافتاً إلى أنّ بعض السلوكيات الجانحة يقف خلفها نوع أو أكثر من أنواع تعاطي المخدرات، وهذا ما يوجب على الأسر والمدارس وكافة مؤسسات المجتمع استثمار طاقات الشباب وتوظيفها بالشكل الصحيح، وفق منهج وخطوات واضحة تحد في النهاية من استعراض الذات التي أصبح من الملاحظات على الجيل الحالي. أفكار طبقية وقال "د.سعد المشوح" -أستاذ علم النفس المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية-: "من الصعب جداً أن نطلق مصطلح الاستعراض كمصطلح يمكن أن نتداولة بين المختصين أو بين فئات المجتمع، فالاستعراض قد يأخذ جوانب أو أعراض مرضية محددة، فمثلاً من سمات بعض الاضطرابات الشخصية الاستعراض أمام الآخرين، سواء بالمظاهر الجسمية أو الانفعالية أو الوجدانية، ولذا يجب أن نحذر حينما نستخدم مثل تلك الألفاظ في الأوساط الاجتماعية"، موضحاً أنّ ما يمر به بعض الشباب من كلا الجنسين من تفخيم الذات إنما يعود إلى أسباب تربوية أو نفسية ذاتية أو اجتماعية، مبيّناً أنّ الجيل الحالي الذي يتناول مفهوم ثقافة تضخيم الذات هو في الواقع يعكس نمطاً اجتماعياً مختلفاً، ويظهر اعتراضه على العادات والقيم الأسرية وتقبل صورة الذات كما هي، مؤكداً على أنّ الأسرة أو البيئة المحيطة أو المجتمع يساعد على ذلك من خلال شيوع الأفكار الطبقية والثقافة المتمركزة حول القوالب النمطية، وظهور اتجاهات ثقافية واجتماعية تتركز حول انخفاض قيمه المجتمع وما يقدمه من خدمات، بالإضافة إلى سيادة ثقافة التغير العالمي وفق معايير لا تنطبق مع ثقافة وقيم المجتمع المحلي، معتبراً أنّ قيمة هؤلاء الشباب ونظرتهم لأنفسهم تمثل المحك الأساسي لتضخيم الذات، فكلما ازداد التفكير السلبي نحو الذات كلما سعى كل فرد بالمجتمع في مرحلة الشباب من كلا الجنسين إلى استخدام صور غير حقيقية نحو ذاته وغير مطابقة لمجتمعه. شاب يعرض حياته للخطر من أجل «شوفوني» ذات مزيفة وأضاف "د.محمد شاووش" -استشاري الطب النفسي ونائب رئيس الجمعية السعودية للطب النفسي-: "تنمية الشخصية وتطوير المهارات الشخصية يحقق الذات الايجابية، والتي تتسم بالعقلانية والثبات، وهذه الذات الايجابية تتأثر بالظروف المحيطة، وهناك من يفقد بصيرة ذاته ويتعامى عنها، أو يكون فاقداً للصفات والسمات الايجابية للذات، ويكون لديه خواء نفسي وشعور بضعف الثقة بالنفس، وبالتالي يعمد إلى الالتفاف على الذات بعمل سلوكيات وأفعال يحاول فيها أن يبدو على غير واقعه الحقيقي، لمحاولة شد الانتباه للآخرين وهذا يعرف بتضخيم الذات، وعندما يتم مواجهة أحدهم بحقيقة استعراضه لذاته يعتريه القلق والتوتر والعصبية، وربما العدوانية، لأنّ ذلك يعد تهديداً لتلك الذات المزيفة". أمراض نفسية وأشار "د.شاووش" إلى أنّ الذات السلبية غالباً ما تدفع الفرد إلى أعمال غير مقبولة كالتحايل أو فقدان الإحساس بالآخرين، لهذا كثيراً ما يكون هؤلاء الأشخاص عرضة لبعض الأمراض النفسية كالقلق، والاكتئاب، واضطرابات الشخصية، والميل إلى تعاطي المخدرات"، مؤكّداً على أنّه بالإمكان معالجة ذلك الوضع السلبي من خلال التعرف على ايجابيات وسلبيات الشخصية، وتحقيق الأمان النفسي لها أولاً ومن ثم العلاج الاستبصاري؛ وذلك بالعودة إلى العقلانية، وتنمية الثقة بالنفس، والتعرف على الحيل الدفاعية غير الناضجة والتعامل معها، من خلال العلاج التحليلي وحلحلة العوامل المؤثرة سلباً. د.أحمد الحريري د.سعد المشوح د.محمد شاووش