أن نودع أموالا عند صديق ، فهذا شيء لا يدعو للعجب ولا يستغرب ، وأن نودع ماشية وخيولا أو أثاثا وسلاحاً وممتلكات عند من تثق به ، فهذا أيضا من الأشياء المعتادة، ولكن أن نودع قبر زوجة قد ماتت ودفنت فيه ، فهذا هو ما يدعونا إلى أن نبحث وننتبه وأن نقف عند القصة لكي نتبين مدى الوفاء بين الأصدقاء، والنظر في معاني الكلمات التي ترد في الشعر. لست هنا مستعرضا لقصة كالقصص الشعبية أو التاريخية من أجل تسلية تنتهي مع نهايتها تقال في مسامرة ليلة مقمرة، أو تكتب لتأخذ حيزا من الورق وكما من الحروف بلا هدف ثم تقلب الصفحة. نريد في هذا المقال الموجز، أن نحصد شيئا من الأثر الطيب لرجال الأمس وهم جذور لما عليه نحن وأجيال جاءت بعدهم وأساس لتعاملهم وأسلوب حياتهم، وقد أورقت أعمالهم خصالا طيبة في جيل اليوم تتمثل في حفظ الأمانة والصداقة والجوار الطيب والالتزام بالعهود وحسن العشرة. لقد أطلت في المقدمة بقصد وهو أن القصة تستحق أكثر من مقدمة ومدخل ومخرج جميل عطر. القصة شخوصها: الشاعر: عيادة بن منيس، شمري . وهو الطرف الأول مع زوجته الوفية. أما زوجة عيادة بن منيس فهي: خرعة، والتي اتصفت بالإخلاص وحسن العشرة. والطرف الثاني من معادلة الوفاء هو صديقه: سوهج بن حركان،العمودي ،وترجع القصة إلى زمن يصل إلى 130 سنة بدليل معاصرة الشاعر لمعركة المليداء والأمير محمد بن عبد الله بن رشيد. وعلى العموم ليست مهمة المقال توثيق بقدر ما يهمنا تثبيت خصلة الوفاء حتى في قصة خيالية غير واقعية. تبدأ القصة المؤلمة الموجعة المحزنة والمبكية لما فيها من وجع وألم، عندما بدأت الفاجعة حيث أصيب عيادة بن منيس، بانفجار البارود فيه أثناء إعداده، وكان يعده بنفسه دائما كعادة أهل ذاك الزمان لادخاره لتغذية البندقية التي تستخدم للصيد والدفاع والحماية، ومن المعروف أن البارود كان يعد يدويا من مجموعة مواد محلية في البادية هي الفحم ونوع من الملح وهو أكثره ويستخدم في إعداده أدوات خشبية سواء ما يدق به أو ما يدق عليه ويعرض للرطوبة منعا لجفافه وانفجاره، حتى لا تحدث شرارة من عملية صنعه، فالأخشاب لا تحدث من تضاربها شرارة وعكسها الصخور أو أدوات النحاس(النجر)، ويبدو أن عيادة استخدم حجارة أو النجر وأدت حركة غير موزونة منه إلى حدوث شرارة ثم انفجار الملح في وجهه وهو أمر مقدر، فأصيب كل جسده وعينيه فلم يبق في جسده ما يمكن الإمساك به أو تحديد جزء سليم منه، إلا أنه بقي حيا كالميت. المشكلة أنهم كمجموعة مع من حوله كلهم كانوا قد عزموا على الرحيل وقت الشتاء وقبالة الربيع، سوف يرحلون عن المكان كالعادة، وكان إعداده للبارود بكمية أكبر من أجل الرحيل به حتى ينتهي وقت الربيع. هذه المشكلة أدت إلى تغير برنامج الرحلة الجماعية تلك، وحصول خلل في الترتيبات، فلن يرحلوا ويتركوه ولن يبقوا فتهلك مواشيهم. زوجته كما يروى اسمها خرعة، وهي من قرابته، أشارت عليهم بإتمام مهمتهم والرحيل وطلبت منهم أن لا يتغير شيء في الترتيبات، وأنها ستبقى تعتني بزوجها عيادة. كانت بالفعل عند قولها وعلى قدر مكانتها الزوجية المخلصة، إنها وفية جدا معه وصادقة في خدمته، لازمته في إصابته تلك وبقيت بجانبه تداريه وتغذيه وتعتني به. بقيت معه في وقت رحل كل من حوله لطلب المرعى والمحافظة على سلامة وحياة المواشي، أما مكانها فهو جبال أجا في شمال الجزيرة بالقرب من حائل، وبناء على طلب هذه الزوجة ورأيها واقتراحها وموافقة عيادة نفسه الذي أيد رأيها برحيلهم وملازمتها له طيلة الشهرين أو الثلاثة من تنقلهم بحثا عن الربيع ورعي مواشيهم بما فيها مواشي عيادة. يقول عيادة تأكيدا لما اصابه : نطيت ضلعٍ لاسقى راسه الحيا صعيب من راس العوالي طبوبها [ من يوم ثار الملح قدام ناظري مثل المقمع يوم شبَت شبوبها] ولَي ياعيني كل ماقول خندرت تشبه لبرطم شنة من غروبها واثاريك ياعيني كفى الله شرَه دريتي بها قبل العرب مادروا بها وحلمت حلم ٍ غث قلبي وخاطري واركى على كبدي بحامي شبوبها فكأنه يصف حاله فيقول: إن البارود وهو ما يسمونه الملح ، عندما ثار في وجهي كنت مشابها لمن ثارت فيه البندقية المسماة (المقمع) التي تغذى بالبارود والدرج من الرصاص أو الحصى. كما يذكر في الأبيات : أنه قد رأى في المنام هذه المشكلة بتفاصيل ستلحق بزوجته لأنه رأى ثعبانا (صل) يلدغ ناقته،فجاء هاجسه بأن زوجته سوف تلدغ فتموت. مضت فترة الربيع وهو في وجعه حتى تماثل للشفاء في آخرها، لكنه بقي ضعيف الجسم، ولا تزال زوجته تعتني به. عاد الجمع بعد تفرق واستبشروا بوجود عيادة حياً سليماً، وفرح بهم كذلك وأراد أن يكرمهم فرحا بالعودة ، فذهب يصطاد حول المكان ثم عاد بالصيد وطلب من زوجته إعداده وعم الفرح ساعات. لم تعش زوجة عيادة بعد عودتهم تلك إلا أياما حيث لدغتها حية في الليل فطلبت منه أن يشعل النار ليرى ماالشيء الذي لدغها، فإذا حية في وركها وقد سرى سمها في جسد الزوجة فماتت في الحال. هذه النهاية التي ليست من نسج خيال قصاصين، أصابت زوجها عيادة بحرقة تشبه الكية على قلبه حتى أنه طلب مغادرة المكان بعد دفنها، فلم يعد يحتمل رؤيته وقد قال قصيدة أثناء رحيله تناولها الرواة ليوصلوها لكل سامع في المكان نفسه جاء فيها: يا مزنة غراء نشت من مغنّه على الخضر وديار غمقين الأطعان تاقف على الرتقة تقل يوم سنّه من زود سيله يغرق الأنس والجان ولا هيب عن وديانكم مستكنّه حلو عليها طامي العشب لا بان يا ونتي تاتي ثمانين ونّه ما اقواك يا زوري على ثقل ما جان ونين راعي سابقٍ غرقنّه شهب النواصي مرخيات بالأرسان تقنطرت بوجيههن واودعنّه بنات ياراع السبايا كحيلان برماح من فوق البريم ضربنّه فوق البريم وحدر لمّات الامتان عليك يا اللي ما لهدّتن بونّه يابو ثمانٍ كنهّن وزن ميزان ياما يديّي كلهن لمسنّه وبالسهر ياما دافي البطن حاضان صارت علي مثل القطاة المكنّه لاما بريت ووال الأقدار عافان عرفت يوم عظامها ماعمدنّه هوزة عديمٍ هازها واطلق الزان عزي لعيني تقل ناضوح شنّه من البير يجذبها مراجيع عثمان بخلافهن رقط المحاحيل غنّه زمّار دولة عسكرٍ تقل ديبان غب السواقي والثلاث أطلعنّه بغروب يودعن أشهب الماي شلان القبر صلبات العمد شيلنه برضٍ نراها لسوهج بن حركان وداعتك سحم الضرى لايجنه وداعتك (قصيرتك) [يا بن حركان ] ولما سمع صديقه: سوهج بن حركان هذا البيت : وداعتك سحم الضرى لايجنه وداعتك (قصيرتك) [يا بن حركان ] لازم حراسة قبر الزوجة المدفونة دون علم عيادة ، بناء على أن قبرها وداعة عنده وفي المكان الذي هو مقيم فيه، لازم قبرها يحرسه في الليل حتى لا تأتي السباع وخاصة الذئاب والضباع فتنبشه، فكان يحرسه يوميا من أول الليل حتى تطلع الشمس لمدة شهرين، ولما بلغ عيادة أنه قد شق على صاحبه بتوديعه القبر ليحرسه لم يصدق ذلك عيادة حتى ذهب إليه راجعا، وكان قبر الزوجة يعرف لدى المتواجدين في المكان بأنه قبر المقروصة حتى أن زوجة ابن حركان عندما سألها عيادة عن زوجها أين هو قالت: له عند قبر المقروصة أوصاه عيادة بها، يحرسه والحي ابقى من الميت. جاء إليه عيادة آخر الليل فرآه يحرسه فعلا منذ رحيلهم وحتى علمه بذلك فعانقه وبكى الاثنان من تذكر المواقف وساعات الحزن التي تعصف بهما كلما تداعت مع ورود الذكريات. قيل إنه أصبح يضحي لها كل سنة مع أضحيته تتمة للوداعة، وقد بين عيادة بن منيس لصاحبه أنه لا يقصد من البيت مضمونه الفعلي وتطبيقه كوداعة يفترض أن تحرس ليل نهار ولكنه هاجس شاعر أقرب ما إليه في تلك اللحظة صديقه فأسندها عليه، ولكن صاحبه سوهج أكد على أن الوداعة لا يمكنه أن يفرط فيها حتى ولو كانت قبراً لا خوفاً على المدفون فيه. وهذا فيه تأكيد على أن في الناس من يحفظ العهود من قديم الزمان إلى قيام الساعة.