المودة علاقة حميمية تقوم بين الكائنات الحية وتشد بعضها إلى بعضها الآخر، مثلما تشدها إلى الزمان والمكان اللذين ينزع إليهما الكائن الحي، لما لهما من إثرة لديه، وقد يضمر المكان حبا لأهله ولكنه لا يملك أداة للتعبير عن حبه أو كرهه، أو إننا لما نتعرف على حاسة التعبير لديه، ولكن مشاعرنا التي تنبض بحب المكان أو تحن إلى الزمان تعكس مشاعر المكان، فكم تحدث الشعراء إلى ديارهم واستلهموا إجابتها من مشاعر ارتياحهم لرؤيتها وتذكر أيامهم ورفاقهم بها. وكما ينزع الإنسان إلى ديار أمضى بها زمنا رفيقا من حياته نجد الحيوان ينزع إلى دياره إذا أبعد عنها، وإلى رعاته الذين ألف الحياة بينهم. إن هذه المودة هي علاقة وطدتها المشاعر وتبادل المصالح وحق احترامها ورعايتها: الله نشد عن معرفة يوم يا حمود ولكن هذه العلاقة أو المودة بين الزوجين لا تكفي إذا لم تكن مؤطرة برحمة كما قال تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة)، وبالرحمة تكتسب المودة قيمة أعلى ودرجة أسمى في إطار المودات، فهذه العلاقة إلى جانب إنسانيتها فإنها تعمق دائرتها أفقيا وراسيا وتبنى صرحاً من العلاقات الاجتماعية المعززة بقيم دينية واجتماعية واعتبارات تدعم كيان هذه المودة ومؤسستها التي هي أول مؤسسة بشرية قامت في الأرض، وشكلت كيانا عهد له بعمارة الأرض وخلافتها، والناس ينظرون لرابطة الزواج نظرة احترام وتكريم يفرحون لقيامه، ويألمون لتصدعه. ونحن اليوم نشعر بما يواجه هذه المؤسسة من خلل يتمثل في ارتفاع نسبة الطلاق لأتفه الأسباب، وقد يرجع ذلك لفقدان الاحترام لهذه الرابطة، فمتى افتقد الود الرحمة افتقد أكبر عناصره، ومتى اعتبر الزوجان العلاقة الزوجية حكراً عليهما اهتزت العلاقة، وتسلل التفكك والتصدع إلى كيان هذه المؤسسة، وسهل على أطرافها التحلل منها، مع أن هذه الرابطة تشمل عديداً من الأطراف ينبغي تعميق قنوات التواصل معهم واحترامهم والخجل من الأقدام على التفرق لأسباب لا تبرر الطلاق. هكذا كانت العلاقة الزوجية احترام وتقدير وتعاطف وتحمل مسؤولية الحفاظ على سلامة المؤسسة واحاطتها بالتسامح والرعاية والاحترام والبعد عن الذاتية والأنانية. وكان اختيار الزوجة إلى عهد قريب يعتمد على الأسرة وبخاصة الآباء والأمهات، والذين يعتمدون معايير أدناها المال وأوسطها الجمال وأعلاها الدين والأدب، وذروتها النسب. أما اليوم فكلنا يعرف الكيفية والمعايير المعتمد عليها في الاختيار، ولا أنتقص من ذلك فقد تبدل كل شيء في حياتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وأصبحنا رهن ضغوط التغيير وفسحة العيش وأحلام اليسر. كانت الزوجة سكنا وستراً وعونا للزوج، وكان الرجل زوجاً متحكماً، وأباً قاسياً في التربية قسوة من يقسو ليزد جرأة، وكانت الزوجة داعمة لقسوته لإدراكها أبعاد قسوته. أما من الجوانب العاطفية فإن الشعراء من الرجال بإحساسهم وشفافيتهم يعبرون عن الجمال أينما وجد، تعبيراً لا يقلل من أهمية الزوجة أو يبخسها مكانتها من قلبه، فهم يقولون مالا يفعلون، وإنهم في كل واد يهيمون. هكذا يبرئهم القرآن من سوء النوايا التي قد تفهم من شعرهم. وقل إن نجد شاعراً عربيا تغزل في امرأة بعد أن أصبحت زوجة له، فإبداء محاسن الزوجة ليس من خلق الشاعر العربي إلا أنه قد يمتدح خلقها أو يرثيها بعد موتها منصرفاً عن ذكر ما يبدع في التغزل بمحبوبته التي قد لا يجمعه رباط زواج منها. والشاعرة تمتدح الشجاع والكريم من الرجال دون تحرج لأنها تمتدح فضائل فيهم تميزهم عن سائر الآخرين. ولهذا نجد الشاعر المتزوج يفرغ شحنات عواطفه في التغزل بمن يجد فيها ملمحاً جميلاً وتشده إليها عاطفة جياشة، أو صفات كريمة. وقد يكون شعره استجابة لدوافع ألهمته عاطر الكلام، وأمان داعبت خياله فأبحر معها. والشعر الأصيل لا يبدع إلا عن صدق عاطفة، وبالغ تأثير. وأنا أتحدث عن الشعر ذاته لاعن نظمه. والغزل في الشعر الشعبي فيه من الرقة والعذوبة ما يبهر، وفيه من الغث ما لا تقبله الذائقة السليمة، وفيه من المجاراة والصدق ما ينفيه الشاعر ذاته حينما يندفع مع خياله المبدع في قصيدة عصماء ثم يفاجئنا بأنه كان يحلم أو أنه عاد إلى وعيه وندم وانصرف عن تنفيذ أحلامه وأمانيه. والشاعر سليمان الطويل صاحب البيت الشعري الجميل: والردف طعس نابيٍ ما وطي به غب المطر شمس العصَيْر اشرقت به كان رائعاً في غزلياته، مبدعاً في صور شعره، لقد زاره خيال من يحب في منامه فقال: كيف حالي محت ما باقي الا العطام وين ابَى القى دخاتيرٍ يداوونها من سبب جادل شفته وانا بالمنام جابه الحلم والصمان من دونها ما تسر العلوم ولا تفيد الحلام صرت في سالفة ليلى ومجنونها لو تعبّدت ما بين الحجر والمقام كِنْ عيني إلى لدّيت بعيونها إلى قوله: لا جزا الله بنوّ الخير ورق الحمام كلما شافته عيني بكى نونها ساجعات على المسعى وباب السلام من ورا المدرسة برّا ومن دونها ربما أدركه الحلم في مكةالمكرمة، وبالتحديد في مكان ينسى المرء فيه كل ما يشغله، ولكن حمائم الحرم الجميلة تشعل حوافز الذكرى لدى الشاعر ولا مفر من رؤيتها فنجد فكره متنقلا بين الحمائم والصمان على بعد أكثر من ألف ميل. ومع أن الأبيات ليست من فرائد شعره إلا أن فيها من الصور والمعاني المتصلة بالأمكنة والأشياء والمشاعر ما يوحي بصدق المعاناة، وعمق الشاعرية، وقد جاءت هذه الأبيات في ديوان الشاعر الذي أعده بندر الدوخي. ومن أطرف ما أبدع الشاعر الطويل قصيدة غزلية وردت في كتاب "شعراء من الوشم" الذي أعده الأستاذ سعود اليوسف. والأبيات ليست جادة فيما يبدو لي ولكنها من إخوانيات الشعراء التي يشعلون بها مجالسهم. يقول الشاعر: يا من لقلب من هوى البيض ممروض مرض المعيد اللي من الهزل هيما قالوا: هما لك زوجة فرض مفروض؟ قلت: ايه الى ما اني تغدّيت ابي ما إنه يشكو لوعة الحب التي جلبت له المرض، ذلك المرض الذي يصيب الدواب التي تعمل لسحب الغروب أو الدلي الكبيرة بواسطة السواني، فتصاب بالهزال والهيام لمشقة عملها. ولكن جلساء وأصدقاء الشاعر يتندرون به مستنكرين دعواه لأنه متزوج والزواج عصمة، ولكنه وبأسلوبهم التندري يجيبهم بأن حاجته إلى الزوجة تنحصر في خدمته باعداد الطعام وإحضار الماء، وهذه إجابه ساخرة مجالسية، فللزوجة لدى الشاعر مكانة رفيعة تجلت في رثائه لزوجته في قصيدة مؤثرة، تعبر عن ألم الفقد ومشاعر الوحدة بعد رحيل زوجته: يقول الذي صابه من الهجر ما كفى كثير الروابع والمنام قليل ألا واهني من عاش بالوقت مترف ولا ذاق من هجر الزمان غليل ولا شاف داراً خالية من بدورها وهم نورها قبل الزمان يميل ثم يعرج على المعالم الجميلة في بيئته مما يقضى بها الأوقات الجميلة فيعتذر إليها بعدم ارتيادها لما يعاني من ألم الفراق: ألا يا شجرات القاع والعرق ما حلا مقيل بكن لولا الفؤاد عليل عليل من الفرقى وهمٍّ يسوقني كما ساق غربي الشمال جفيل الا يا شجرات العرق ما لي بكن ذرا إذا صرت مضهود قبالة ليل إلى قوله: له قلت يا خصم الندم لا تلومني تراني من الفرقى ذكرت خليل خليل خلت منه المنازل ولا خلا فوادي ولا غيره نويت بديل ثم يخاطب قبر الفقيدة وشاهده، تلك الصخرة التي توضع عند مقدمة القبر فيقول: ألا يا حصاة القبر واللين والثرى خلعتن فوادي لين راح هبيل ألا يا حصاة القبر ما تسمحين لي أشوف العزيز اللي وراك ذليل ألا يا حصاة القبر خفي وسامحي على مترفٍ ما يحتمل ثقيل ألا يا حصاة القبر وان ضيّف الحيا جوانبك ما صكت عليه يسيل كما اني ولو غربت للشام واليمن أخيلك كما مِسْني البلاد يخيل حكمتِ وحكّمتِ بسجني وانا الذي رثيت الجهد ما لي عليك سبيل تعبير عن الوفاء، وتصوير لحزن الشاعر واستسلامه للقضاء والقدر، وإعلان عن صادق الحب، وإخلاف للظن الذي قد يؤخذ من البيتين السابقين الساخرين. وشعراء الشعبي الذين ضاء حبهم لزوجاتهم بعد وفاتهن كثر، وأكثر تعبيراً عن اللوعة والتحسر والوفاء. إن رثاء الزوجات تتويج للعلاقة الزوجية وتكريما للعشرة الكريمة والحب الصادق.