هناك أشخاص عظام لو أوقفت حياتك كلها للكتابة عن عطاءاتهم وتضحياتهم، لاحتجت عمرا إضافيا على عمرك حتى تستطيع أن تنجز مقدمة مختصره توضع أمام امتداد عطائهم الواسع، وسط هذا الضعف الواضح في مقدرة الكتابة عن الإمساك بأطراف موضوع الكتابة، تخرج المحاولة المتواضعة للسير خلف التاريخ العظيم، لعل تتبع الأثر يجعل من فقر المحاولة غنى ولهذا السبب سأحاول.. بالأمس كان تكريم سمو ولي العهد لحصوله على جائزة الأمير سلطان بن سلمان للتراث العمراني، عن فرع جائزة الانجاز مدى الحياة التي تقدمها مؤسسة التراث الخيرية.. فانشغل أهل الجائزة بالجائزة، وعلت على مشهد التكريم ابتسامات عريضة، ترحب بفارس الحدث، وبدون إرادة واعية مني وجدت حالي أنسحب من هذا الجو الاحتفالي فكرا، وانشغل بموضوعات لا تناسب جو الاحتفال وتربك خطاب التحية والتهاني في داخلي، فقد حضر سلمان الإنسان في موضوعات انشغالي ليحكي لي قصة هذا الوطن، فكلما تذكرت متى كتب التاريخ حضر سلمان.. وكيف كان شكل الحياة في الماضي حضر سلمان، وما هو المعطى الحضاري الآن وجدته في حديث سلمان، والى أين نسير نحو المستقبل وجدت الدرب قد رسمه سلمان. كيف نجمع هذا الإنسان في موضوع واحد، وكيف يكون تكريمه ؟ قمة العجز وتواضع المحاولة.. فالتاريخ لا يكرم إلا بتاريخ مثله، هل أنا أبالغ لا أعرف ؟ ولكنها حقيقة التاريخ، إذا أردنا الإنصاف.. وتحرك شيء في داخلي يقول : فلتعن أمام المحتفلين بالجائزة، أن الاعتراف بالعجز عن تكريم حارس هويتنا الوطنية، هو أفضل طريقة للتكريم، فكل عطاء يتقدم نحوه لن يصبح عطاء إلا بعد أن يمنحه شيئا من عطائه، فقد يكون من المناسب أن نقول إن سلمان كرم الجائزة، وبذلك أكون قد تغلبت على الارتباك الذي بداخلي. فكتابة التاريخ عمل جليل وحفظه أيضا، ولكن حراسته لا يقوم عليها إلا رجال عظام مثل سلمان بن عبدالعزيز، هنا عذرت ضعف الكتابة، وتواضع التكريم.. وفرحت بعظمة المنجز. لقد قيد لكتابة تاريخنا عبر العصور أن تحظى برعاية كريمة لم يسبق أن حظيت بها أي محاولة لتقييد حوادث التاريخ في ماضينا العتيد. فقديما لم يتدخل رعاة الحركة العلمية من الخلفاء والملوك والأمراء في أمر كتابة التاريخ إلا في حالات قصد من ورائها اعطاء تفسيرات عقلانية أو بالأدق تبريرات مسوغة لمواقف أو آراء الحكام ولكن رعاية سمو الأمير سلمان الوارفة للمؤرخين والدراسات التاريخية أظلت بسخاء وسماحة كبيرين أعمالا شتى ليس لها من غاية سوى استجلاء حقائق التاريخ ترسيخا للهوية الوطنية. إن الكم الهائل من الدراسات والأبحاث والكتب والمجلدات والذي يضع المملكة العربية السعودية على رأس قائمة الدول الأكثر إنتاجا للدراسات التاريخية الأصيلة والمترجمة إنما يعود جانب كبير منه إلى الأجواء المحفزة لعمل المؤرخ التي رعاها سمو الأمير سلمان بكل حدب. ولا أظن أن جهود سمو الأمير في حراسة واستجلاء الطابع الأصيل للهوية الوطنية في حاجة إلى تنويه مني أو ثناء؛ فالحقائق على الأرض تتحدث عن الرجال بما هو أفصح من الكلمات. * وكيل كلية السياحة والآثار، جامعة الملك سعود