الفنان صالح حسين علي الدغاري مصور فوتوغرافي له منهج خاص في التصوير؛ تترك أعماله بصمة في الذاكرة تشف خطوطها عن شخصية فلسفية شاعرية اتخذت من الضوء متنفساً تنفذ أشعته إلى روح وعقل المتلقي وتترك لديه ثورة من علامات الاستفهام وملامح الدهشة والجدل والاستنكار أحياناً! وكغيره من المبدعين في مختلف المدارس الفنية له جمهور من المعجبين وفريق من المعارضين الكلاسيكيين. وهو بهذا أو ذاك يعبر عن منهج فني قائم بذاته اتفق معه أو اختلف من اختلف. الجدير بالذكر أن ضيفنا الدغاري حاصل على العديد من الجوائز المحلية والدولية وله مشاركات وحضور لامع في الساحة الضوئية من خلال المعارض والمحاضرات والأمسيات والدورات التدريبية في نجران. سعدنا بعرض مجموعة من أعماله كما سعدنا باستضافة الكاتب والمؤلف المسرحي الأستاذ صالح زمانان ليقدم لنا قراءة فنية لأعمال الدغاري. فيقول في قراءته كما أسماها: (صالح الدغّاري.. جدليات السَواد في عبقرية الظّل!)* "إن كانت القراءات الفنية للأعمال، تحيل القارئ لضرورة التحدث من بوابة المدارس فإن أعمال الفنان صالح الدغّاري سريالية بالمفهوم الأكاديمي تجاه الفن، إلا أن المتابع لأعمال هذا الفنان يستطيع القول انه من القلة الذين سلكوا منهاجاً، يخصهم لوحدهم، من خلال هذا الوعي الكثيف، والرؤية العميقة والشاعرية الحزينة التي تتضح من خلال أعماله، سواء في مدار الفكرة الأصيلة أو التكنيك الذي يجعل أعماله تحف ضوئية تقود المطّلع إلى دهشة وقلق، وسوداوية رومانسية تبدأ من الإنسان كفكرة وتنتهي بالعدم كحتمية. ولعل التكوين الثقافي القوي الذي تتمتع به شخصية الفنان صالح الدغّاري هو الرافد الأهم الذي جعل أعماله تظهر بهذه النخبوية عند متذوقي الفن وخاصته، وهي السبب الذي جعله أيضاً يحصد عدداً من المراكز المرموقة في مسابقات عالمية في الفن الفوتوغرافي. ولأنه يتمتع أيضاً برهافة حسٍ جلية، فإن أعماله تنحدر من تلال الحزن، وتصب في انتحار الكمنجات والشجر والطفولة. وكأن ثيمة الحزن الأسطورية هي قدر الفنانين في هذا العالم. وكما ذكرنا أن الدغّاري وصل لمرحلة فنية تجعل أعماله تُميزه، فكما اشتهرت أعمال "هنري كارتييه" باحتواء الشوارع، واشتهرت أعمال "إيلغر اسِّر" باحتواء البحر، فإن معظم أعمال صالح الدغّاري اكتنفت بخلفيات السواد، واحتلالية الظل. وللفنان صور طبيعية عدة، غير أنها بدت تتخذ وجهاً صريحاً للبؤس والتعب في سلسلة لتوجهه الفني الشاعري، تتضح في أعمالٍ لبعض الوجوه التي تقتسم قدر الحيرة والضياع وإن كانت تدل على ضربٍ من ضروب الأقدار ليس إلاّ، حيث جعل الفنان في ذات البؤس ذاكرة حضارية أو ثقافية أو مجدٍ منصرم من خلال هذه الوجوه، وهنا تبرز ثقافة الدغّاري وعمقه الذي تحدثنا عنه. وفي إطار هذه الأعمال نجد العمل الأشهر "شاطئ المنفى" الذي وسم به غروباً حزيناً جمع الإنسان المنكّس البعيد والشجر المائل باتجاه البحر، أخذ صورته من أفق بعيد، وذهب بنا صوب المنافي كما لو كُنا منفيين!. الظل، له رمزية فنية عتيقة في مجال الفنون، وصالح الدغّاري اتخذ الظل باعتباره الكائن الرئيسي في محاولات البحث عن الأعمق في خبايا الميتافيزيق والمختبئ، لذلك نجد أعماله اما أن يكون الظل منفردا بتكوين الفكرة وبعثها، أو يكون العمل طبيعياً ولكن باتخاذ وضعية "السيلويت-sihouette" حيث يتم التقاط صورة الجسم مع تعمد مصدر الإضاءة خلف الجسم المُراد تماماً، واللقطة الناجمة تكون خالية من ملامح الجسم، بيد أن الظل هنا يكون باهراً ودرامياً بشكل صارخ. بل بلغ بفنان الظل –الدغّاري- أن جعل الظل قضبان سجن، وكائنات عدائية هلامية، وإطارات لكوادره المهزومة. وبمناسبة الحديث عن الإطار، فإن الإطار في أعماله ليس حداً ولا نهاية، بل خيبة جديدة، يمتد السواد خلفها بعيداً.. وكأن قضيته الضوئية هي البائسين والحزانى في ذاكرة الأرض. وفي سلسلة العدمية التي يجرّب من خلالها الدغّاري فإن بعض أعماله اتسمت بالمسرح، حيث نرى في عددٍ من أعماله استخدام الأقنعة كشخصية أخرى، أو وجه آخر لانكسار أخلاقي يراه الفنان بضميره الناعم، وحساسيته المفرطة. كما اعتمد على عنصر اليد البشرية في أكثر من عمل، منطلقاً من مبدأ اليد وأصلها في التعقيد والحل والتدخل، تارة ملتوية حول بعضها في اتقان يشير للمازوخية المطلقة، وتارة نابتة في شجرة كمحاولة للعودة.. للتوبة.. للرجوع صوب أي شيء غير الرحيل. وفي تواصل مذهل لعبقرية الفنان صالح الدغّاري فقد تواجدت روح الموسيقى في أعمالة الحُزنية كآلات وترية تفترش الغبار، ويخلفها السواد، ويقبض عليها الكادر ولا يعزفها.. أبداً. المتابع لهذا الفنان الرهيف، سيرى السجون، وحمى الأطفال، وفلسفة الحزن الأسود، وموسيقى التعب البنيّ. وسيعرف أنه كما تُصنع السينما، فإن الدغّاري يصنع أعماله الفوتوغرافية. ومن خلال تسميته لأعماله تظهر لنا هذه الشاعرية الخلاّقة والهم الضوئي، مثل "رائحة الرماد"، و"في ارتداء فكرة من خشب!"، "وجه في حانة"، "تصعيد هذيان"، "نظرة على قيد الحياة"، "شاطئ المنفى". * صالح زمانان صالح الدغاري