التشبيه الدقيق من أرقى فنون البلاغة، ومن أقوى الأجنحة التي يطير بها الشاعر ليصل إلى تجسيد مشاعره.. وهو - أي التشبيه - ليس غرضاً في ذاته أو غاية عند الشعراء الأصليين، وإنما هو وسيلة لتجسيد المشاعر، أو تصوير المناظر، أو تقريب البعيد، أو جعل المعنوي كالمحسوس، فهو أداة طبعت في خيال البليغ.. في عصور الانحطاط يصبح التشبيه غاية لا وسيلة، فيرص الشعراء التشبيهات لمجرد اللهو واللعب بالكلمات لأنها تكون عصور ضعف ثقافي وأدبي.. ومن روائع التشبيه قول أبي الفتح كشاجم في وصف روْض جاده الغيث: وروضٍ عن صنيع الغيث راضٍ كما رضي الصديق عن الصديق يُعير الريح بالنفخات ريحاً كأن ثراه من مسكٍ فتيق كأن الطلّ منتشراً عليه بقايا الدمع في الخدِّ المشوق فإعجاب الشاعر بالروضة الممطورة جعله يصورها لنا مجسدة كأنما نرى ابتهاجاً ونشم أريجها ونحس بنسيم النعيم يسري فينا وفيها.. و(كشاجم) مُغرم بوصف المطر والرياض، يقول أيضاً: غيثٌ أتانا مؤذناً بالخفض متصل الويل سريع الركضِ فالأرض تُجلى بالنبات الغضِّ في حليها المحمرِّ والمُبيضٍّ وأقحوان كاللجين المحض ونرجسٍ زاكي النسيم بضِّ مثل العيون رنقتْ للغمض ترنو فيفشاها الكرى فتغضي (الأقحوان من نبات الربيع الجميل أبيض الزهر في وسطه دائرة صغيرة صفراء وزهوره البيضاء فيها فلج جميل يشبهون به أسنان المحبوب، ومفرده أقحوانه). (والنرجس نبات غض كأن فيه حياء فهو يغضي، يشبه زهره عيوناً بدأها الكرى فهو تفتح وتغمض). ولشاعرنا الشعبي عبدالله العنقري التميمي الملقب بلويحان لأن جده كان يلوح للضيوف داعياً لهم من بعيد لشدة كرمه.. له رحمه الله عدة تشبيهات جميلة نقلت لنا صوره الشاعرة: يا حمامة غريبة عند باب السلام شفت رسم الهوى باطراف جنحانها رسمها رسم نجد اللي سقاه الغمام يا عرب كن زهر الورد باوجانها عضيها العين ما ذاقت لذيذ المنام من يلوم العين بشوف خلاّنها اتنشّد ولا جاني وكيد العلامْ عسكر القلب عقبه مات سلطانها» ومثل قوله في الحكمة الصادرة عن معاناة وحرارة فهي تنبض بالحياة: الطيب يخلق مع قلوب الرجاجيلْ ما هوب في بنك التجارة تجاره والرزق من عند القوي بالتساهيل ما هوب بالقوة ولا بالشطاره من عاش في حيله وكذب وتهاويل ياسرع من عقب الطلوع انحداره والشور ما ينفع قلوب المهابيل كالزند وان حرّك تطاير شراره لو تامره بالعدل يعرض عن الميل يبتل على رايه بربح وخساره والطبع ما ينزال غيره بتبديل مثل الجدي مسراه ليله نهاره والحنظله لو هي على شاطي النيل زادت مرارتها القديمة مراره والتشبيه البليغ يحرر عواطف الفنان ويصور حاله باختصار كقول أبي صخر الهذلي يصف شدة حبه: وإني لتعروني لذكراك هزّة كما انتفض العصفور بلله القطر ويصبح التشبيه هو الاطار وداخله المشاعر كقول ابن زيدون: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في اصائله كأنه رق لي فاعتل إشفاقا وللنسيم اعتلال في أصائله كأنه رق لي فاعتل إشفاقا والروض عن مائه الفضي مبتسم كما شققت عن اللبات أطواقا يوم كأيام لذاتٍ لنا انصرمت بتنا لها حين نام الدهر سُرَّاقا نلهو بما سيتميل العين من زهرٍ جال الندى فيه حتى مال أعناقا كأنَّ أعينه إذ عاينت أرقى بكت لما بي فجال الدمع رقراقا ورد تألّق في ضاحي منابته فازداد منه الضحى في العين إشراقا سرى ينافحه نيلوفر عبق وسنان نبَّه منه الصبح أحداقا كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا إليك لم يعد عنها الصدر أن ضاقا لا سكنّ الله قلباً عقّ ذكركمُ فلم يطر بجناح الشوق خفاقا لو شاء حملي نسيم الصباح حين سرى وفاكم بفتى أضناه ما لاقى لو كان وفَّى المنى في جمعنا بكم لكان من أكرم الأيام أخلاقا يا علقي الأخطر الاسنى الحبيب إلى نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا كان التجاري بمحض الود من زمن ميدان أنس جرينا فيه أطلاقاً فالآن أحمدُ ما كنا لعهدكم سلوتم وبقينا نحن عشاقا