مصطلح النصيحة أو المناصحة يحيلنا فورا إلى ثنائية (الجيد والحسن/أو الطيب والشرير) أي أن هناك من يستأثر بالحكمة والحقيقة وتمام اليقين، ليجزل النصح للآخرين ويوزعه على من حوله بالتساوي، كي يرتدوا إلى سبل الصواب..أو مايراه على الأقل هو صوابا. مصطلح النصيحة هو وإن كان ظاهره الرحمة إلا أن باطنه مقصات وفؤوس، فهو يمرر عبر خطاب ناعم الملمس جزل اللغة، لكننا حين نتأمله قليلا نجده استحواذيا ومهيمنا تبشيريا.. خطاباً يجعل الناصح يستبطن إحساسا بالتفوق والأفضلية مع استنقاص الطرف المقابل (المنصوح) لأنه ارتكب جريرة الاختلاف عن..الناصح. النصيحة هي إداة أيدلوجية بأذرع أخطبوطية للهيمنة على الطرف الآخر أو على الأقل تقريعه بتهم التبديع والتفسيق. النصيحة هي تكريس للفكر الأبوي (البطريركي) الذي عبر تراتب هرمي يوزع وفق مشيئته السلطة والحكمة والوعي على الرعية والمريدين والأبناء، ونعرف أن الفكر الأبوي يقوم على أحادية الرؤى، وهو ضد المدارس الإنسانية الحديثة التي تؤمن بالإنسان كقيمة أولى مع الاحتفاء بالتعددية والثراء في المشارب والغنى في الأهواء، بل هو فكر أحادي ضد التعايش والقبول بالمختلف لأنه يرى خروج فرد عن الحوزة والحياض يجعله بمقام الابن الضال أو الكبش المارق الذي يناصب الأب العداء . هل يُقبل الناصح على المنصوح وهو يستبطن قول الإمام الشافعي (رأيُنا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب)، وهي القاعدة الذهبية في فن الحوار الراقي؟ النصيحة هي (بلدوزر) ضخم يقتلع الأشجار ويجرف التربة، ويغرس بدلا منها نصبا حجريا في الوسط، ويطلب من الجميع أن يدوروا حوله لأنه الحقيقة المنجزة التامة . النصيحة هي التمحور حول الذات المنشغلة بإعادة إنتاج نفسها، ولاتفكر بتهيئة الحقول أو نزع أشواكها وأحجارها وتهيئتها لغراس شتلات التعايش . والنصيحة تتبنى سبلا ووسائل الخطاب المدرسي التقليدي الذي هو عبارة عن (مرسل ومستقبل) حيث ينحدر مسار الخطاب من الأعلى إلى الأسفل، ولكن هنا يختلف الأمر لأن المنصوح لم يعد طالبا طفلا تمارس عليه المناهج المدرسية تسلطها وقمعها المعرفي، بل هو ناضج ويمتلك على الأقل مساحة يمارس فيها شغب السؤال.. المنصوح نتيجة شعوره بالقهر وتكريس دونيته سيطور حتما ميكانيزمات الدفاع داخله إلى حدها الأقصى لينتهي الأمر بصاحب النصيحة بحديث مع جدار مصمت . مصطلح النصيحة ليس مصطلحا تقليديا فقط بل أيضا شوفيني متعجرف، لماذا لا يتم استبداله بمصطلحات من نوع تبادل الرأي .. توسيع قاعدة النقاش، تفعيل أساليب الحوار؟ حينما تتبنى جامعة (مؤتمرا للنصيحة) فإننا نفترض حضور المنهاج العلمي المنهجي القائم على ثقافة التحليل والشك والنقد وقبول المختلف، وليس هراوة النصيحة فوق رأس المخالف، أيضا المؤسسة الأكاديمية يجب أن لاتنقطع عن العالم المحيط بها، فهناك في(فيينا) يوجد (مركز للحوار بين الحضارات) وهو على فكرة مركز حوار وليس تبشيرا.. وعلى المستوى الوطني يجب أن يدعم بجميع الأنشطة الأكاديمية الممكنة كوعي وكفلسفة تقوم على تكريس الندية والاحترام وكلمة سواء بيننا وبينهم . أيضا وسائل الاتصال الاجتماعية خلقت برلماناً شعبياً هائلًا كلّ فيه يعتلي منبره، ويعبر عن رأيه بصراحة ووضوح وأريحية لتعلن اندثار زمن المناصحة والوصاية الفكرية. النصيحة بأرديتها الحالية هي استهانة بصيرورة الزمن وانقطاع عن المحيط ..