ها هو فيلم آخر ينضم لعائلة أفلام السفر عبر الزمن، يأتي مدعوماً بقصة مختلفة، وبمعالجة مختلفة أيضاً، في الفيلم الثالث الطويل للمخرج الأمريكي الواعد "ريان جونسون"، الذي كتبه وأخرجه في نموذج آخر للمخرج المؤلف، وهو ما يبدو خياراً ناجحاً حتى الآن. يأتي فيلم "صانع الحلقة –Looper" في خليط من الإثارة والخيال العلمي المعتمد على فكرة السفر عبر الزمن، تلك الفكرة التي ألهبت خيال كثير من الأدباء والفنانين، فأرشيف صناعة السينما وهو ما يهمنا هنا مليء بالأعمال التي يتذكرها الجمهور عن السفر عبر الزمن، منها ما هو مبتهح تغلب عليه الكوميديا مثل سلسلة "العودة إلى المستقبل–Back to the Futuer" لروبرت زيمكس كان أولها عام 1985م، ومنها ما هو مظلم بالنفس الرؤيوي ونهاية العالم، مثل "12 قرد - 12 Monkeys" لعضو المونتي بايثون المخرج الشهير "تيري جيليام عام 1995م، ومنها ما غازل الفكرة من بعيد مثل فيلم "تردد –Frequency" لجريجوريهوبليت عام 2000م، أو نقل رائعة ه. جي. ويلز "آلة الزمن" إلى معادلها الفني السينمائي كما في فيلم الستينات الشهير "The Time Machine" لجورج بال. لكن مما يجدر الانتباه إليه، أن وجود مثل هذه الأفلام التي تعالج هذه القضية التي تحمل من الإشكالات العقائدية والعلمية ما تحمل، إلا أنها تبقى فخاً أدبياً وفنياً يجب الانتباه إليه، وهو أنها في طور معالجتها المعتمد على نظريات تعنى بمسألة مسار التاريخ وفكرة القدر اللاهوتية وحتى في المناقشة العلمية، فهي فريسة احتمال تكرار الأفكار وإعادة صنع الكليشيهات التي سبقت بها الأفلام المبكرة التي عالجت مفهوم السفر عبر الزمن، ومن هنا يمكن اعتبار "لوبر" فيلماً ناجحاً بامتياز، فهو وإن دار في فلك تغيير مسار التاريخ مرة أخرى، لكنه قدم شكلاً مغايراً لما يمكن توقعه من فيلم يدور حول السفر عبر الزمن، والسر يكمن في الحبكة. يفتتح الفيلم على سيارة دفع رباعي، في ولاية كانساس عام 2044م، يقودها من سيعرف نفسه بأنه من اللوبرز "صانعو الحلقات" أولئك الذين يعملون لدى منظمة جريمة ترسل لهم أفراداً من المستقبل وبالتحديد في عام 2074م ليقوموا بتصفيتهم، ففي ذلك العام يتم اكتشاف آلة للسفر عبر الزمن، لكن الحكومة تقوم بحظرها، وتستخدمها المنظمات الإجرامية بالسر، لإرسال الأفراد المستهدفين للماضي ليتم تصفيتهم والتخلص من جثثهم تحت مسمى "عملية التنظيف"، ففي المستقبل لا يمكن إخفاء الجثث مع تقنيات التعرف الحديثة والتتبع الدقيق، "جو" بطل الفيلم، يمارس عمله وغرقه في عالم الجريمة المظلم الذي لا يأخذ صور براقة من المستقبل، بل نرى العالم وهو في حالة أكثر بؤساً وفقراً رغم المباني الهائلة الارتفاع وبعض التقدم في تقنيات الأجهزة المحمولة والاليكترونيات الحديثة والدراجات، إلا أن السيارات التي تخلت عن استخدام البترول واعتمدت على نظام الطاقة الشمسية وكذلك المقايضة بالفضة والذهب، تعطي وجهاً ممكن التصور للأزمة الحالية، وهي نقطة تحسب للمخرج الذي أدرك أهمية خالق عالم يتناسب وفكرة "اللوبرز" الذين يمكن الخلط بين عملهم الإجرامي وحماية منظمات القانون لهم، ما يجعل حركتهم في المدينة خالياً من الاتهام أو محاسبة القانون، وهو ما سيتغير كما يبدو في المستقبل، الذي لن يخلو من إجرام يعرف كيف يتحرك في مساحة القانون، وهنا تكون المعضلة، إذ إن بروز أحد رجال العصابات وترؤسه المنظمات الخمس التي لا نعرف عنها سوى ومضة من أحد الحوارات، يجعل حياة "اللوبرز" في محك، فقد بدأ "صانع المطر" كما يلقب باستهدافهم المباشر من خلال عملية "إقفال الحلقات" إذ يتقاعدون من عملهم واحداً تلو الآخر في انتظار الثلاثين عاماً التي سيتم فيها تصفيتهم من خلال إرسالهم إلى أنفسهم في الماضي، لكن أحد اللوبرز يترك شخصه المستقبلي يفر، ما يقوض فكرة صانع المطر كلها، وتبدأ الأحداث بالتسارع من خلال محاولة "جو" المسن الهارب الثاني قتل "صانع المطر" في طفولته. يمتاز الفيلم باشتغاله المكثف على الظواهر النفسية ومحاولة استثمار الذكريات في المسار التاريخي الأساسي لفيلم يعتمد على الحركة في المستقبل من جهة واحدة فقط نحو الماضي، في محاولة إنقاذ المستقبل الذي لا يعدو أن يكون الأمس في الحاضر الذي انتقل إليه شخص اللوبرز المسن، وهي نقطة تأتي فعاليتها من الذكريات التي بدأت في التفلت منه بعد عودته وعبثه في المسار التاريخي، الذي يحيطه "جونسون" بدقة بالغة في التفاصيل التي يمكن وصفها بالسلاح ذي الحدين، إلا أن الحبكة المتقنة مع الأداء المدهش لطاقم الفيلم دون استثناء حملاه ليكون فيلماً مميزاً لعام 2012م. وعند الحديث عن الأداء فإن جوزف غوردون-ليفيت يقدم أحد أفضل أدواره على الإطلاق، هناك لحظات يذكرك فيها بأداء الكبار، حواره على الطاولة مع المخضرم "جيف دانيلز" وابتسامته التي يحاول من خلال هدوئها إقناعه بعدم علمه بشيء يذكرنا بالممثلين الذين خرجوا من رحم "استديو الممثل"، "بروس ويليس" كالعادة قادر على التقلب عاطفياً رغم كل القسوة التي يحملها وجهه الأصلع، البريطانية "إميليبلنت" وإن ظهرت في الفيلم متأخرة إلا أنها تبدو حاضرة فيه من البدء، ربما كان الجزء الأبرز المتواري في الفيلم هو موسيقى "ناثان جونسون" الذي برز من خلال عمله مع "ريان جونسون" في أفلامه الطويلة الثلاثة، ومارشال ليوي في فيلمين طويلين قدمهما خلال السنوات القليلة المنصرمة، وهي فترة مبكرة للحكم عليه رغم نجاحه في تقديم المعادل الموسيقي المناسب لفيلم يسبح في نهر الزمن، لكن تلك الفكرة الجميلة عن حلقة تعاون فنية تدور بين هؤلاء الشباب في الاشتغال مع بعضهم في أعمالهم من أفلام قصيرة وتجريبية وحتى روائية طويلة، يمكن أن تكون نموذجاً يحتذى به في سينما الشباب حول العالم، دون الغرق في رومانسية الفكرة ومثاليتها.