سيكون مشروعاً أن نبدأ هذه المراجعة بالسؤال عما يمكن أن يضيفه إلى تاريخه صانع فيلم «فورست غامب» المخرج الأمريكي «روبرت زيمكس» من خلال تقديمه فيلم إثارة جديد وهو المبتعد عن هذه الأفلام منذ اثني عشر عاماً، وبالتحديد منذ أن قدم فيلمه الشهير «المبعد أو المنبوذ – Cast Away» عام 2000م، والفيلم الآخر الذي قدمه في العام نفسه من بطولة هاريسون فورد وميشيل فايفر «ما يكمن في الأسفل – What lies Beneath» والذي لم يحظ بقبول حسن من قبل الجمهور أو النقاد إلا أن كل ذلك تم التغاضي عنه مع تحفته الأخرى التي ذكرناها آنفاً. السؤال السابق قد يتم الاقتباس منه لصنع إجابة منطقية لجمهور زيمكس الذي ينتظر فيلمه الحركي الدرامي الجديد بعد فترة الابتعاد تلك والتي قدم فيها أفلاماً رسومية جيدة مثل «قطار القطب السريع – The Polar Express» عام 2004م، «بيولف - Beowulf» عام 2007م، «ترنيمة عيد الميلاد – A Christmas Carol» عام 2009م، لكن هذا الانتظار الجماهيري والفضول النقدي سيصبح هماً هامشياً بعد مشاهدة آخر أعمال زيمكس الذي يبدو أنه مهووس بحوادث سقوط الطائرات بطريقة ما!. يفتتح فيلم Flight أحداثه على سهرة صاخبة في حياة طيار مدني، ومع استيقاظه المتصدع بآلام رأس مبرحة، تتبدى لنا إشارات واضحة على أي شخصية يحملها قائد الطائرة ذلك، وهو ما لا يمكن لنا استيعابه إلا مع الكثير من التسامح ومحاولة التصالح مع فكرة وجود شخص وصل إلى هذه المرحلة من الإدمان وما زال قادراً على الاستمرار في قيادة الطائرة رغم كل التغيرات التي لا تصب في صالح الطيارين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والأزمة الاقتصادية الأخيرة وتسريحات العاملين في شركات الطيران بشكل واضح، لكننا يجب أن نتخلى عن صرامة هذا الرأي واختيار شخصية سوداء تعاقر الخمر رغم النجاح الوظيفي وكذلك الحضور الاجتماعي الذي يتمتع به ذلك الطيار الناجح «ويب ويتكر» الذي يؤدي دوره الممثل الأوسكاري «دنزل واشنطن». حدث الفيلم الرئيسي يأتي سريعاً ومن خلال قدرة إخراجية مميزة من زيمكس في خلق مشهد سيتذكره المشاهد كثيراً، مشهد سقوط الطائرة الذي يأتي بعد حوادث معكرة لرحلة طيران بدأت في طقوس مناخية غير مستقرة، لكنها رحلة تحدث دائماً وتنتهي بسلام، لكنها هذه المرة لا تنتهي بسلام، ونراها تتزحلق في حقل زراعي تتقدمه كنيسة يتحطم برجها بجناح الطائرة التي يستطيع «ويب» أن يجعلها تسقط بشكل طارئ ومذهل، ويحافظ على أرواح الركاب المائة مع خسائر محدودة في الأرواح كان من ضمنهم مضيفة طيران كانت تربطه بها علاقة غرامية. الأحداث تبدو في مسارها الطبيعي، «ويب» يظهر بمظهر البطل الذي استطاع بحنكته الحفاظ على أرواح الركاب وطاقم طائرته، لكنه ومع خبر مقتل زميلته يحاول الابتعاد عن الأنظار في مزرعة بعيدة عن العمران يمتلكها جده، وهناك يعود لإدمانه بشكل يؤكد الإشارات الأولى في أول الفيلم، عن مدى الدرك الذي وصل له «ويب» الذي خسر زواجه وعلاقته بابنه من مطلقته التي يبدو أن لإدمانه علاقة بكل ذلك، «ويب» يدرك المأزق الذي يعيشه ويحاول التعافي من محنته عبر المراكز العلاجية التي تدعوه لها امرأة تدخل حياته عندما كان يعالج من جروحه بسبب حادث سقوط طائرته، لكن الأمور لم تعد تدور حول خياره الشخصي، فتحقيقات الدوائر الحكومية حول حادث سقوط الطائرة أثبتت من خلال التحليلات الطبية بأن دمه كان مشبعاً بمواد كحولية ومخدرة، ما جعله عرضة للمساءلة القانونية والسجن الخطير بتهمة القتل وتعريض حياة المدنيين للخطر، إلا أن بعض من حوله من أصدقاء ومحامين، يحاولون تجنيبه تلك العقوبة، والتي تدفعه بشكل حاد إلى معاقرة الكحول وإدمان المخدرات ما يهدده عالمه بالتداعي، الأمر الذي يستدعي تصرفاً جاداً وقاطعاً من أولئك الأصدقاء، لتنتهي الأحداث بطريقة ليست متوقعة، يحاول من خلالها زيمكس أن ينهي حكايته بما يراه عادلاً وما تستحقه تلك الشخصية دون التعسف في الحكم عليها واعتبار واقعها الإنساني في مساحته الحقيقية. كما يفعل زيمكس دائماً فإن شخصيته الرئيسية، تخوض غمار الفيلم بطاقة مذهلة، إنها تسيطر على الأحداث حتى وإن توارت في بعض اللحظات، لكن هالتها تظل هناك بحضور مدهش، وهنا تظهر جودة اختيار «واشنطن» الذي قدم أحد أفضل أدواره، فلقد قادته خبرته في تقديم تلك الشخصية المعقدة بطريقة لا يتسرب لها الضعف من خلال استدرار عطف مزيف أو مؤقت، نظراته القوية وشعوره العميق بالخسارة، إدراكه للمأزق، حياته التي تتسرب من بين يده بسبب اختياراته البائسة، ولعل السر في كل تلك القدرة على السيطرة على شخصية مضطربة بخلاف إدارة زيمكس المميزة، تكمن في الطاقم المميز الذي شاركه الفيلم، جون غودمان، وبروس غرينوود، ودون تشيدل، أسماء معروفة جيداً في السينما الأمريكية، ونرى في الفيلم سبب شهرتها من خلال الأداءات البارعة لقصة تم الاعتناء بها رغم بعض الهنات في مفاصلها الرئيسية. «رحلة طيران» فيلم يعيد زيمكس إلى أجوائه التي أحببناها من خلاله، يقع في مسار مثير يجد طرفي العلاقة فيه من خلال استخدامات مثلى لأغنيتين بارزيتن دار الفيلم بين مطرقتها وسندانها، أغنية جو كوكر «أشعر بالتحسن – Feelin› Alight» ورائعة الرولينغ ستون «امنحني ملجأً - Gimme Shelter». روبرت زيمكس دينزل واشنطن