أصبحت الحاجة ماسة للرفع من مستوى كفاءة الأداء في جهازنا الحكومي ومدى فعاليته ليواكب ما يشهده المجتمع في المملكة العربية السعودية من تحولات كبرى على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية. فمعظم أجهزة الدولة لم يطرأ على أطرها التنظيمية أي تطوير يذكر منذ ثمانينات القرن الماضي حيث حدث وقتها نقلة نوعية كبرى نتيجة لبرنامج الاصلاح الإداري الشامل الذي تبنته الدولة آنذاك، في الوقت الذي نرى أنه قد تحقق في العقود الأخيرة من تاريخ المملكة قفزة كبرى في تحسن مستوى الحياة على كافة الأصعدة، وصاحب ذلك ازدياد أعداد الطبقة المتعلمة والفئات المثقفة وبالتالي فإن من المحتم أن تتحقق طفرة كبرى لمستوى الوعي في المجتمع وخاصة في ضوء ما حدث خلال العقود الأخيرة من اختراقات وتطورات هائلة على وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصالات ما أدخلنا بحكم طبيعة الأمور في عالم اليوم وما يدور فيه ومكن العالم في الوقت نفسه من التسلل لكافة زوايا وخاصيات محيطنا الاجتماعي والإنساني بما ينطوي عليه من أحداث وقضايا وتحولات فكرية وعلمية وسياسية واجتماعية لا حصر لها، ما ترك بصماته المؤثرة بايجابياتها وسلبياتها في ذهن ونفسية معظم أبناء هذا الوطن. نخرج من ذلك بحصيلة مهمة هي أن مستوى التنظيم والإدارة في جهازنا الحكومي بحاجة لنقلة نوعية مماثلة في مستوى ما يقدمه من خدمات للمواطنين ليتواءم مع تطلعاتهم وما يرونه مما يحدث حولهم من مؤثرات وتحولات جديرة بالمتابعة والاهتمام وذلك بتبني العناصر التالية: إعادة تنظيم أجهزة الدولة: يجب إعطاء أولوية كبرى لمسألة إعادة تنظيم الأجهزة الحكومية ابتداءً بالأجهزة ذات الارتباط المباشر بالمواطنين. ويمكن أن يتحقق ذلك بمساهمة فريق عمل كفؤ من أستاذة الجامعات ومعهد الإدارة المختصين بالتعاون عند الضرورة مع خبراء أجانب أسوة بخبراء مؤسسة فورد الأمريكية الذين قاموا بجهود يشكرون عليها بما أجروه من دراسات لواقع الجهاز الحكومي آنذاك ضمن برنامج الإصلاح الإداري المنوه عنه إعلاه. فالحقيقة التي لا مناص من مواجهتها أن هناك عدداً من أجهزة الدولة التي أصبحت فاعليتها أو الحاجة إليها محدودة ولا يتناسب ذلك مع ما يعتمد لها من ميزانيات، علماً أن هناك أجهزة يمكن أن تدمج بعضها مع بعض ما يوفر موظفين وبمبالغ طائلة على الميزانية العامة، وهناك جهات أخرى مثقلة بالأعباء والمهام مما يؤكد الحاجة للنظر في تقليص أعبائها عن طريق إعادة التنظيم وتنسيق البعض منها أو ربطها بأجهزة أخرى أو إنشاء أجهزة جديدة عند الضرورة. كما أن هناك أجهزة بحاجة ماسة للدعم كالخدمات الصحية وخاصة المستشفيات والأحوال المدنية والمحاكم والجوازات. تحريك القيادات الإدارية وتشجيع الكفؤ وإبعاد عديم الكفاءة منها: يجدر بنا النظر نحو تبني سياسة قائمة على السعي بكل جدية وشمول على تحريك القيادات الإدارية التنفيذية بين أجهزة الدولة بصورة مستمرة. فبينما نجد هناك كفاءات يمكن إتاحة الفرص أمامها لتولي العمل في قطاعات أكثر حساسية بسبب كفاءتها، نجد أن هناك قيادات تنفيذية تراوح لسنوات طويلة في مواقعها من دون أن تثبت أي جدارة أو أن تحقق نتائج محسوسة فيما هو مناط بها من مهام ومسؤوليات جسام من دون أي مراجعة جادة لتحديد الأسباب وراء ضعف أدائها. وكلنا نعرف أن الماء ذاته إذا ركد في منقعه مددا طويلة لا بد أن تنبعث منه الروائح. والحصيلة من ذلك كله انعدام الحيوية والتحفز النشط لتأدية المهام المتطلبة لدى العديد من الكوادر الإدارية في بعض القطاعات مما لا بد أن تنعكس آثارها ويجني ثمارها المواطنون ممن تلزمهم متطلبات حياتهم اليومية التعامل معها. أحاسيس المواطنين وتطلعاتهم: هناك ضرورة لمضاعفة الاهتمام بما يدور في أذهان المواطنين ويتفاعل في نفوسهم بالرغم مما تعبر عنه كثير من مشاركات المهتمين بالشأن العام في الصحافة، وذلك عن طريق توسيع نطاق الالتقاء بفئات المواطنين على اختلاف مشاربهم من قبل القيادات الإدارية الإشرافية والتنفيذية على حد سواء، كما أن الاهتمام بالتعرف إلى طبيعة القضايا المعروضة عن طريق اللقاءات الشخصية بأصحابها لا بد أن يساعد إلى حد كبير على إيجاد الحلول الأجدى لها وبالتالي التخفيف من أعباء الجانب الورقي وحجم حركة الملفات الخاصة بها بين الدوائر المعنية. قصور النظرة للمستقبل: إن مما يجدر ذكره في هذا المضمار أن العديد من القياديين في قطاعات الدولة المختلفة لا يولون للمستقبل وآفاقه البعيدة والقريبة ما يستحقه من اهتمام وتطلعات المواطنين نحو هذه الآفاق. لذا فإن الاهتمام بهذا الجانب البالغ الحساسية ومتطلبات الأجيال القادمة من خلاله تبعاً لواقع دقات الزمن الأزلية تبقى بحاجة للمزيد من العناية والاهتمام من قبل الجميع. وأن معظمنا يعمل ويتصرف وكأن لا مستقبل من بعد الحاضر الذي نعيشه ولا أجيال قادمة ستأتي بعدنا. مكافحة الفساد الإداري: إن هذا الأمر أصبح من الضرورات القصوى فما لمسناه في هيئة حقوق الإنسان أثناء عملي بها من ضمن ما يردنا من شكاوى وما يرد لسمعنا كمواطنين، أن الأمور في هذا المجال أصبحت تتحول من السيئ إلى الأسوأ، وبالتالي فإن إجراءات حازمة لا بد أن تتخذ لمكافحته بدءاً من طريق مراقبة حازمة ومحاسبة من تدور حولهم الشبهات. ومما لا شك فيه أن إنشاء هيئة مكافحة الفساد يعتبر خطوة أساسية في الاتجاه الصحيح. كما أن هناك سبباً آخر لهذه الظاهرة المؤلمة هو انعدام الشفافية كاشهار الحالات القليلة التي يجري التحقيق فيها وثبوتها من قبل الأجهزة الحالية كالهيئة الجديدة للفساد، وهيئة الرقابة والتحقيق، والمباحث الإدارية، والمحاكم المعنية. وكم من إداري قيادي ترك العمل الرسمي وفي حسابه المبالغ الطائلة بينما لم يوجه له سؤال واحد عن مصدرها مما يعتبر تشجيعاً لمن يعقبونه وسواهم على اتباع النهج ذاته من دون وجل أو خجل. مستوى الخدمة المحلية: من المسائل التي يجب إعطاؤها حيزاً أكبر من الاهتمام من قبل غالبية الإداريين التنفيذيين، وباعتبارها أيضاً خطوة مهمة للأمام تتناسب مع التطلعات نحو المستقبل، إلا وهي مسألة تبني مبدأ انتخاب رؤساء البلديات في كافة مدن المملكة على أن يتم ذلك على مراحل. فكون المسؤول الأول في البلدية يجد نفسه في مواجهة المواطنين في نطاق عمله في مدينته مباشرة سيدفعه إلى تقدير مدى جدية المسؤولية الملقاة عليه، مما سيزيد من حرصه على تحقيق الآمال المعقودة عليه، وأن استمراره في عمله مرهون بمدى ما سيقدمه لتحسين أحوال المدينة التي تولى أحوالها بإرادة أبنائها. كما سيكون لذلك وقع ملحوظ لدى الجهات والمنظمات الدولية التي تتابع بحرص ما تحققه، أو ما لا تحققه بلادنا من تطور وارتقاء في تسيير شؤونها العامة. إعادة تنظيم إدارة الميزانية العامة للدولة: هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في وضع هذه الإدارة لما لها من أهمية قصوى، ليس فقط بالنسبة للجهاز الحكومي، بل بالنسبة للبلاد عموماً فالشخصيات القائمة على تسيير دفة العمل فيها والأساليب المتبعة التي ربما كانت تتفق مع أسلوب واحتياجات العمل إبان فترة مضت عندما كانت ميزانية الدولة لا تتجاوز بضعة ملايين من الريالات، في حين إنها أصبحت تقدر في وقتنا الحاضر بمئات الملايين من الريالات، وأن ما نرجوه أن لا يفهم طرحنا هذا أنه تعريض بوزير المالية الحالي المعروف لدى الجميع بتعامله السليم في مجال اختصاصه واتزانه في تسيير دفة شؤون هذه الوزارة. إلا أن الإرث الثقيل الذي وجد نفسه أمامه يصعب تغييره عن طريق إجراءات على مستوى الوزارة علاوة على ما أشرنا إليه أعلاه بالنسبة للمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتق جهاز الميزانية نتيجة للتحول الهائل في حجم الواردات المالية للدولة ما يتطلب تبني إجراءات عاجلة. فحجم الأعباء يحد من قدرة إدارة الميزانية في تحمل وإدارة كل ما يرتبط بمسؤولياتها في تقييم الاحتياجات الحقيقية في مجال التنمية لمناطق هذه البلاد الشاسعة. فهناك نشاطات حكومية يرصد لها اعتمادات ربما أكثر من الحاجة في الوقت الذي يحرم أبناء بعض المناطق من خدمات وبرامج كما لو أنهم يعيشون في العصور الماضية، خاصة في جهات تهامة والمناطق الواقعة ما بين العلا والمدينة. لذا فإنني أعرض هنا فكرة تبني التنظيم الآتي: * تشكيل مجلس أعلى للإشراف على شؤون الميزانية العامة للدولة مرتبط بمقام رئيس مجلس الوزراء أو سمو نائبه مباشرة. * يتشكل المجلس من نخبة مختارة من المسؤولين في حدود عشرة أعضاء من الدولة منهم كل من وزير المالية، ووزير البترول، ومن خارجها وتحدد دورته بأربع سنوات ويجدد للنصف منهم فقط في حالة الضرورة عند انتهاء كل دورة لكسب عناصر جديدة وأفكار وتجارب متطلبة. * تشكيل لجنة تحضيرية لتولي أعمال السكرتارية للمجلس ولمتابعة تنفيذ ما تتطلبه أعمال المجلس من دراسات واحصاءات وخلافه من قبل أجهزة الدولة المختصة ومن خارجها وإعدادها للعرض على أن يعاد النظر في عضوية المشاركين في هذه اللجنة كل أربع سنوات لضمان استقلاليتهم وعدم انصياعهم لرغبات أصحاب المصالح وذوي التأثيرات الخاصة، سواء من المسؤولين الرسميين أو من سواهم. * تنحصر مهام المجلس بصورة رئيسية في استعراض احتياجات القطاعات الحكومية المختلفة للاعتمادات المالية في ضوء التقديرات المتوقعة للموارد المالية المقدمة من قبل كل من وزارة المالية ووزارة البترول والمعادن. * يناقش المجلس كافة الجوانب الخاصة بحجم الاعتمادات المطلوبة في ضوء الأوليات والخطط المطروحة وطبيعة الاحتياجات الحقيقية للأقاليم المختلفة وأوضاع أبنائها المعيشية بعيداً عن تأثير المصالح ذات الطبيعة الاقليمية أو الضغوط الشخصية للمسؤولين في هذه المناطق، للوصول إلى أفضل النتائج في تقرير مدى الاحتياجات القائمة للاعتمادات المالية، فإن الأمر يتطلب إجراء زيارات ودراسات ميدانية جادة ومستمرة على مدار العام، من قبل أعضاء المجلس ومن يعاونهم من رجال موثوقين توكل لهم هذه المهام بالتعاون مع الإمارات المعنية لمعرفة أحوال السكان ومدى احتياجاتهم للخدمات الحكومية خاصة في مجالات الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية، وفرص العمل وسواها، وإعداد نتائج هذه الأبحاث والدراسات الميدانية ذات الطبيعة الدائمة للعرض على المجلس عن طريق اللجنة التحضيرية، على أن تتم مناقشتها على مدار العام وليس في الأشهر القليلة قبل اعتماد الميزانية كما هو عليه الوضع في الوقت الحاضر. والله من وراء القصد..