كنا صغارا ونكتب على ذاك الجدار"الحب عذب وننسى الألف والمعنى جدا مختلف .." لله در القائل : فكلما باغتني الحنين تسارعت هذه الابيات لتتوج الذكرى.. الحنين ليس جدولًا ينساب برقة بين الزروع، ماؤه رقراق وصوته خرير.. ولا هو نسمات رياح باردة تعبث بذوائب الشعر فتحركها دون ان تبعثرها، ولا هو هتان المطر الذي يروي ولا يكاد يبلل المتعرض له. الحنين شعور طاغ له عنفوان الشلال وانقضاض العواصف وحدة إبر الامطار حين تملأ الاودية وتشقق الصخور .. الحنين قد يكون لذكرى حدثت في وقت مضى.. قهوة أمي المتوفاة.. غمزة عين صديقتي التي لم أرها منذ عشرين عاما.. البالطو الازرق الذي كنت ارتديه فيناسب كل ألوان الملابس تحته ويجعلني أميرة .. وذلك المزيج العجيب بين رائحة ورق الليمون واغنية فات الميعاد لام كلثوم.. والحنين قد يكون لشيء لم يحدث ... أمل أو أمنية لشدة ما تمنيناها صارت قطعة منا وصار عبورها على الذاكرة يساوي حنينا طاغيا يسلب سكينة اللحظة.. لكن بوجه عام الحنين هو جسر عبور تهديه لنا الدنيا لنعبر فوقه من واقعنا المليء بالتفاصيل المتعبة الى مساحة حرة تسمح لتنفسنا بالانتظام مهما علا واضطرب وتسمح لعيوننا ان تتصالح مع الغمام مهما كانت الرؤية صعبة وتكاد تكون مستحيلة.. تسمح لآذاننا ان تستعيد شريطا تمتزج فيه الاصوات مهما كانت متنافرة وغريبة وتسمح لاقدامنا ان تركض مهما كانت ضيقة ومراقبة.. وتسطع شرارة الحنين احيانا بلا مبرر لكنها غالبا ما تتألق بدافع يشبه حكة ظفر في بساطته واقتلاع جبل في قوته فتنهال الذكريات كالمطر وتتلاحق في سلاسل قد لا يربط بينها زمانيا او مكانيا الا أنك كنت يوما طرفا مشتركا فيها.. الحنين شعور فائق حين يتملكنا يملكنا، وهو طفل شديد الدلال حين يجتاحنا لا يتركنا حتى نلبي كل طلباته ونصدع لكل رغباته وننفذ مغلوبين - لكن سعداء - كل شطحاته.. وللحق فإن الحنينهو إحدى رحمات رب العالمين التي نحتاجها بين الحين والآخر لتذكرنا بأننا فعلنا اشياء احببناها وعرفنا وعايشنا اناسا أحبونا وأننا ذات يوم لم يكن مستحيلا كنا نضحك ملء شفاهنا ونبكي ملء عيوننا ونشتاق ملء قلوبنا ونتمنى ملء أحلامنا.. الحنين صنو أن تكون إنساناً .. ما أعظمه من نعمة !