للمدن، سحرها وجمالها وإغواؤها، تماماً كالنساء. لا أعرف، لماذا تحضر هذه الفكرة الملعونة، كلما صافحت عيناي مدينة جديدة. هذه المرة، الامر مختلف بعض الشيء، فأنا أشاهد جدة من على متن طائرة تنتظر دورها بكل شوق للهبوط بسلام على تراب هذه المدينة الشهيرة. ليست المرة الاولى التي ازور هذه المدينة المثيرة، بل أنا أتردد عليها دائماً، ولكنني أشعر بذات "اللذة" الشهية التي أعرفها جيداً كلما وطأت قدماي مدينة جديدة. جدة، مدينة ممتلئة حد الانتشاء بالفرح والبهجة والسعادة. جدة، مدينة تضج بالحياة والحب والأمل. في جدة، تختلط كل التفاصيل، وتتماهى كل الحدود، وتذوب كل الفوارق، وكل ذلك من أجل رسم ابتسامة عريضة، وصناعة حياة طبيعية. في زيارتي الاخيرة لهذه المدينة الساحرة، فاجأتني كعادتها بالكثير من التفاصيل الجميلة والغريبة. تلك التفاصيل التي لا تجدها إلا في جدة. كثيرة، تلك التفاصيل المثيرة التي استفزتني حد الدهشة في هذه المدينة المتألقة التي تحوي كل التناقضات والمفارقات. جدة، أخذت من بحرها كل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، فهي تشبه البحر حد التطابق، في هدوئه وهيجانه، مده وجزره، رحابته وامتعاضه، بساطته وغموضه. حتى الانسان في جدة يشبه البحر تماماً. جدة، المكان والإنسان، رواية مثيرة، لم تُقرأ بعد. فقط، 3 من تلك التفاصيل الكثيرة التي تتمتع بها هذه المدينة الساحلية الجميلة، أجدها بحاجة إلى شيء من التكثيف والإضاءة، لأنها تُقارب بعض التابوهات والممنوعات والخصوصيات التي كرستها، ومازالت تلك الذهنية التقليدية، أو لأكون أكثر صراحة وشفافية، تلك العقلية المتشددة التي لا تُريد لهذا الوطن العزيز أن ينعم بأجواء طبيعية وسليمة وصحية كبقية الأوطان القريبة والبعيدة. فبكل آسف مازالت بعض العقليات تعمل على افتعال أزمات واحتقانات وصراعات. الحرية، وهي العنوان الابرز لهذه المدينة المتحررة - تقريباً - من كل العقد والأمراض النفسية والاجتماعية والثقافية، لأنها تخلصت من قيود الماضي وتبعية الحاضر وهيمنة الفكر المنغلق. في جدة، لا وجود لمظاهر الكبت والانغلاق والخوف، ولكنها المدينة الاكثر قرباً من الحياة الطبيعية بكل ايجابياتها وسلبياتها، تماماً ككل المدن المتحضرة والمتمدنة في العالم. المجمعات والأسواق التجارية، تغص بالرواد والمتسوقين من كل المستويات والأجناس والأعمار، وليس ثمة وجود لذلك الفرز بين العزاب والعائلات، ومع ذلك، تسير الامور بكل هدوء وسلاسة وراحة. التسامح، وهي صفة تمتاز بها هذه المدينة المفتوحة على كل الآفاق والأفكار، ما عكس ذلك على أهلها حيث أصبحت عقولهم وقلوبهم أكثر انفتاحاً وتسامحاً واحتضاناً للآخر. في جدة، كل الاديان والمذاهب والقوميات والأعراق والفئات، تعيش بسلام ووئام، تماماً كفسيفساء بديعة الالوان ورائعة المنظر. أما الصفة الثالثة التي تُميز هذه المدينة الساحرة، فهي ظاهرة الفرح التي لا تكاد تُفارقها. جدة، مدينة ممتلئة حد الانتشاء بالفرح والبهجة والسعادة. جدة، مدينة تضج بالحياة والحب والأمل. في جدة، تختلط كل التفاصيل، وتتماهى كل الحدود، وتذوب كل الفوارق، وكل ذلك من أجل رسم ابتسامة عريضة، وصناعة حياة طبيعية. تلك، بعض الجوانب الرائعة التي ميزت هذه المدينة المثيرة، ولكن لابد من ذكر بعض الملاحظات والتحديات والسلبيات التي تشوه صورة هذه المدينة الجميلة. فمثلاً، مطارها لا يليق بمكانتها وشهرتها كبوابة للحرمين الشريفين. مطار جدة، وصمة عار في جبين هذه المدينة الفاتنة. أما البحر، فله حكاية أخرى. بحر جدة، هو سر جمالها وسحرها، ولكنه بالكاد يُرى، بسبب كثرة المشاريع والأبنية والأسوار العالية. جدة بحاجة لبحرها الذي اشتهرت به. أما النظافة في جدة، فملف ساخن، ويحتاج إلى اجراءات سريعة وحازمة، فلا يعقل أن تكون جدة بهذا المستوى المتدني من النظافة. الاوساخ وأكوام الزبالة والأنقاض والحفر في كل مكان تقريباً. وأخيراً، جدة بكل ما تحمله من ثقل حضاري وتاريخي وثقافي وفني، بحاجة ماسة لفعالية سنوية كبرى، تضعها على خارطة الفعاليات والمهرجانات الكبيرة، محلياً وعربياً، بل وعالمياً. في جدة، مخزون هائل من الفنون والآداب والتراث والفلكلور والرقصات واللهجات، إضافة إلى سجلها الحضاري والثقافي والتنويري الذي يشفع لها بأن تحظى بمهرجان كبير كالجنادرية ومعرض الكتاب وسوق عكاظ. جدة، ليست مجرد مدينة سعودية ساحلية، ولكنها تجربة فريدة ورائدة للتعايش الحقيقي بين مختلف المكونات والشرائح، ومثال رائع للحرية والتسامح والانفتاح والفرح، فمتى تصبح مدننا الاخرى كجدة؟