يشكّل العمل الذي نشغله جزءاً من حياتنا، وثقافتنا، وتفكيرنا، ومصدر دخلنا، ولكن هناك من لا يحبون العمل الذي يزاولونه، أو على الأقل لم يعد بوسعهم تحمل النفوس التي لا يطيقون رؤيتها في العمل، أو حتى الشعور بالإنتاج، والارتياح النفسي، ولكن لديهم طريقة واحدة يتحملون فيها مشاق هذه الأعمال، وهي استحضار من يحبون أثناء العمل؛ حتى يكون ذلك دافعاً قوياً لهم؛ لتجاوز العقبات، والمنغصات، والصدامات، وربما الأشخاص السلبيين المحيطين بهم!، حيث تجد كل واحد من هؤلاء يضع صورة أطفاله أو زوجته أو من يحب ببراويز على سطح مكتبه، أو في جواله، أو كمبيوتره، أو حتى محفظته. والموظف أو العامل حينما يتذكر أمه وزوجته وأطفاله، أو أشخاصا لهم تأثير في حياته، ويريد أن يحقق لهم حياة كريمة، أو أن يدخل البهجة على قلوبهم ليفتخروا به وبعمله؛ فإن ذلك مسوغاً على الاستمرار في العمل؛ فقد رأينا نماذج كثيرة كانت تتغلب على رتابة عملها أو صعوبته باستحضار أبنائهم ومستقبلهم الذين يريدون تأمينه لهم، وأناس آخرين يستحضرون أمهاتهم اللاتي ترتسم الفرحة على محياهن بمجرد رؤية أبنائهن ناجحين وموفقين في أعمالهم، وهناك من تمثّل له محبوبته الدافع القوي للتميز، وإعطاء ما لديه من قدرات. من يضع صورة أولاده أو زوجته أو والدته على سطح «مكتبه، جواله، كمبيوتره، محفظته» هو يعمل من أجلهم أتذكر أولادي وقال "مصطفى محمود" -مقيم مصري يعمل بالمملكة-: قدمت للمملكة كطبيب، وابتعدت عن أسرتي وأطفالي، وكل هدفي هو تحقيق مستوى معيشي أفضل لهم؛ فهم في المراحل المتقدمة من التعليم، وأريد أن أراهم بأفضل حال دائماً، مشيراً إلى أن عيادته غالباً ما تكون مزحومة؛ مما يشكل ضغطاً كبيراً عليه، ولكنه يستحضر صور أبنائه أمامه، وينسى مع ضحكاتهم كل هم وتعب. ..وأخرى على شاشة جواله تترك أثراً نفسياً على إنتاجه أمي الغالية وأوضح "نايف الحامد" أن مراحل استحضار من نحب تتشكّل مع الإنسان منذ بداية مراحله التعليمية، حيث يبدأ بالتوسع في محيط اختلاطه مع الآخرين؛ ففي المرحلة الابتدائية يكون غاية المراد هو سعادة الأم والأب بنتائج الأبناء، وفي المرحلة المتوسطة تكون المنافسة بين الأقارب هي الدافع للمواصلة، أما الثانوية فيكون الهدف هو تحقيق رضا الجميع بتحقيق أفضل المستويات، وبعد المرحلة الجامعية يكون البحث عن وظيفة، وهنا نبدأ باستحضار الأشياء الجميلة التي نحبها. استحضار من يحب الإنسان في العمل ينعكس إيجاباً على أدائه وقال:"كنت أستحضر أمي في بداية وظيفتي، حيث تعبت على تربيتي وأخوتي بعد وفاة أبي، وتحملت مسؤوليات كبيرة لترانا في أفضل حال، وعندما كبرت أردت إسعادها بأن لا أعمل أي شيء يزعجها، بل كنت أثناء العمل أتحمل الصعوبات والمشاق من أجل أن تقر عيناها برؤيتي ناجحاً، ومواظباً على عملي"، مشيراً إلى أنه حتى بعد الزواج والإنجاب لم تتغيّر نظرته، بل يبقي العمل لمن يحب الإنسان دافعاً على الإنجاز، والتفوق، والطموح، وتحديداً حينما تكبر الأسرة الصغيرة. مقياس الإنتاجية وترى "إيمان القحطاني" أن الأشخاص الذين نحبهم هم دائماً الوقود الذي يعطينا القوة لإكمال مسيرتنا في الحياة، ولكل عمل يعمله الشخص بصمة مميزة لشخص يحبه، باختلاف نسبة الحب من شخص لآخر، وذلك يعتمد أيضاً على قرب الشخص أو بعده. د.خالد جلبان وقالت:"إن منافسة صديقاتي المحببات لي هو الدافع لتقديم الأفضل وبذل جهد أكبر في تعليم أبنائي، ورؤيتهم في أعلى الدرجات والمستويات التعليمية مسبقاً، إلى جانب الأعمال التي أرى أنها سوف تدخل السعادة على الوالد والوالدة، وأيضاً عندما أخدم أهل زوجي، فأنا أستحضر سعادة زوجي بي". وأضافت:"إن النظرة الشمولية لقيمة من نحبهم هي مقياس لأدائنا أعمالنا؛ فنحن لسنا آلات نعمل بلا أحاسيس أو مشاعر، ولا يوجد عمل في الحياة ليس به مشقة أو تعب، بل هناك منغصات كثيرة أحياناً لا يستطيع الشخص تحملها، إلاّ بسبب حب من نعمل من أجلهم". منظار وردي وتعلّم "نادية صالح" أبناءها ميزة استحضار من يحبون أثناء أدائهم لأعمالهم وواجباتهم التي يستثقلونها، وقالت:"لو فكرنا قليلاً بالمهن التي تتطلب تركيزا وجهدا مقارنة بمن ينعمون بمهن مستوى الرفاهية فيها عالٍ، لوجب علينا أن نستطعم نعمة الفرص المتاحة للتفكير بمن نحب أثناء أداء عملنا أو حتى التذمر منه؛ فهناك أطباء ومهندسون ومختصون وعلماء وعباقرة وعمال يحتفظون بصور أطفالهم وزوجاتهم وأمهاتهم في محفظة أو إطار للصور ويضعونه دائماً أمامهم؛ حتى يروا أعمالهم بمنظار وردي، ويخفف عليهم الضغط النفسي والإرهاق الجسدي والفكري"، مشيرة إلى أن استحضار شخص نحبه هو بالتأكيد محفز على الإبداع والتميز، والنظرة المتفائلة للحياة، والتخلي عن اليأس، والانهزام، وحتى الأنانية في اتخاذ القرار من طرف واحد. نظرة شمولية في حين تعترف "أم محمد" أنها تستحضر مستقبلها وما تود أن ترى نفسها عليه من خلال عملها؛ لذلك تعطي كل طاقاتها واهتمامها لعملها، وتفكر بأبنائها وزوجها عندما تعمل بالبيت، وتفكر بأهلها عندما تعمل شيئا يخصهم، وكذلك تتحدث عن جانب آخر وهو الأعمال الإنسانية والتطوعية، حيث تستحضر فرحة من تقدم لهم هذه الخدمات. مردود إيجابي وأكد "د.خالد جلبان" -رئيس قسم طب الأسرة والمجتمع بجامعة الملك خالد بأبها- على أن استحضار من نحب أثناء العمل له مردود إيجابي على الشخص وعلى العمل؛ فالفرد منّا لا يُقدم على عمل ما إلاّ لهدف معين، يحدد من خلاله أفكاره، ولماذا يعمل؟، ومن أجل من؟. وقال:"هذا مردود إيجابي على المستوى الشخصي للفرد، ويعتبر محفزا وداعما على العطاء بشكل صحي، ويعتبر أيضاً نوعاً من الشكر لكل من استحضرهم وكانوا سبباً في هذا التقدم بالعمل، أما على المستوى الوظيفي فاستحضار الشخصيات المحببة يزيد من طاقة الأشخاص، ويعطيهم دفعة قوية لتقديم المزيد وخلق جو عمل ممتع وغير ممل وخفيف الضغط". وأضاف ان الشخص منّا سواء كان رجلاً أم أمرة يحتاج للتذكير؛ فالشركات الكبرى تضع رؤيتها في مدخل الشركة حتى يراها أصحابها كل يوم ويتذكرون لماذا هم ينتجون؟؛ لذلك عندما يضع كل واحد منّا صورة أطفاله أو زوجته أو من يحب ببراويز على سطح مكتبه أو في جواله أو كمبيوتره أو حتى محفظته؛ فإنه يستحضر وجودهم بالدعم والتواصل الروحي عن طريق الصورة أو حتى عن طريق التفكير بهم وتذكرهم. وأشار إلى أن بعض الرجال يكون لديهم حواجز من عرض صور أبنائهم أو أقربائهم بشكل علني للجميع، حيث يؤثر ذلك على "البرستيج" العام للرجل، وانتهاك لخصوصياته التي لا يرغب أن يطلع عليها أحد، ولكنه مؤمن بداخله أن استحضارهم يزيد من انتاجيته. عامل نفسي وقال "د.جلبان" إن ثقافة الشخص تلعب دوراً كبيراً في ذلك؛ فالمعرفة تمنحه مسبقاً تذكّر من يحب لتخفيف الضغط عليه، ومنحه الأمل، وقوة التحمل، والتجربة الشخصية في الحياة تساعده على التعامل الأفضل مع الآخر، ومدى تأثير ذلك على حياته ومستقبله، داعياً كل مسؤول في أي جهة وأي نوع من العمل أن يشجع موظفيه على ممارسة مثل هذا السلوك (تذكر الأحباب)؛ لمردوده الإيجابي على إنتاجهم ورضاهم الوظيفي، موضحاً أن توسيع الجوانب الاجتماعية وتشجيعها له فائدة كبيرة على نفسية الموظف والعامل، ومن أبرزها أنه يذهب صباحاً إلى عمله وهو سعيد ويغادر وهو كذلك، وليس مجبراً على أداء عمل لا يتيح له فرصة التنفس أو تذكر وتأمل من يحبهم، وتكون هذه الممارسة جزءاً من حياة الموظفين حتى تصبح عادة لديهم.