من المستحيل.. بل ومن الظلم.. محاولة اختصار أي وطن في مقال صغير فكيف إن أردنا الحديث عن الهند - حيث يوجد سُدس البشر و98 ديانة و17 لغة رسمية و5000 عام من التاريخ!! .. لهذا السبب سأقتصر في حديثي على مشاهداتي الشخصية، ملاحظاتي الخاصة خلال رحلتي الأخيرة للهند (والتي بدأت من ولاية كيرلا في الجنوب حتى نيودلهي وتاج محل في الشمال)!! وأول ظاهرة يلاحظها من يزور الهند هو كثرة ووفرة كل شيء فيها.. فالهند كثيرة بفقرائها، وأغنيائها، ولغاتها، ودياناتها، وأقلياتها، وأفلامها، وبهاراتها، وجامعاتها، وعدد سكانها.. (اختر فقط الجانب الذي ترغب برؤيته أو التحيز له)!! فكما يعيش ثلث سكان الهند تحت خط الفقر، يعيش فيها أيضا أثرياء يفوق عددهم مليونيرات العالم العربي مجتمعين.. وكما يوجد فيها أميون يفوقون سكان أوروبا، تُخرج جامعاتها أكثر مما تخرجه جامعات أوروبا وأمريكا مجتمعة.. ورغم أن المسلمين فيها يعدون "أقلية" إلا أنهم يأتون في المركز الثاني من حيث تعداد المسلمين في العالم (بعد اندونيسيا)!! ومثل كل شيء هناك يتمتع المطبخ الهندي بالكثرة والتنوع (وبطريقة لم أشهدها في أي دولة أخرى).. ومن المريح فعلا أن 80% من المطاعم في الهند "نباتية" وما تبقى "إسلامية" وبالتالي لن تشغل بالك بطريقة الذبح أو ما إن كان هذا الطبق أو ذاك يتضمن شيئا من منتجات الخنزير. .. وبجانب "الطبخ" هناك أمر آخر جعلني أشعر بالألفة والارتياح.. فشخصي المتواضع لم يشعر بتفرده في الهند (كما شعرت مثلا في الصين وكوريا) لأنني أملك سحنة هندية جعلت معظم الهنود يبادروني بالحديث بلغتهم.. وما ساعدني أكثر - على إتقان دور الهندي - عدم تحرجي من لبس الكرتة الرجالية التي تشبة ملابس الأفغان والباكستانيين في بلادنا (كما يتضح من صوري على الفيسبوك)!! ورغم تعدد الديانات والطوائف واللغات تنعم الهند بسلام داخلي تفتقده كثير من الدول العربية ذات اللغة والعرق والدين الواحد.. وقد لا يبدو هذا غريبا على الهند كونها أكبر ديموقراطية في العالم، وأقدم منطقة تمازجت فيها اللغات والأديان، ومن الدول القليلة التي نالت استقلالها دون حروب أو صراعات مسلحة.. ناهيك عدم غزوها أو احتلالها لأي دولة أخرى في آخر1000عام!! ورغم استقلالها منذ عام 1947 إلا أن التأثير البريطاني مايزال واضحا على مبانيها ومحطاتها وأسماء شوارعها - بل وعلى سكانها، ومثقفيها، ومرجعية الحياة فيها (ويكفي التذكير بنظامها الديموقراطي وحقيقة أن عدد المتحدثين بالانجليزية فيها يفوق بريطانيا وأمريكا مجتمعتين)! غير أن الملاحظة الأخيرة لا يجب أن تخدعك.. فالهند ماتزال مجتمعا شرقيا محافظا ومتمسكا بتقاليد لم تتغير منذ قرون.. فمعظم النساء مثلا مازلن يلبسن الساري، ومعظم الفتيات لا يتحدثن مع الأغراب، وكبار السن يعيشون غالبا مع الإبن البكر، ومعظم الزوجات لاينادين أزواجهن بالإسم الأول احتراما له. وكانت الهند قبل الاستعمار البريطاني (الذي بدأ رسميا عام 1858) تعد أغنى دولة في العالم وتعيش في ظل أباطرة مسلمين مغول ينحدرون من سلالة جنكيز خان وتيمورلنك - ويعود لهم الفضل في بناء تاج محل وقلعة دلهي وأكثر من 30 ألف مسجد رائع تشكل عماد التراث الاسلامي في الهند!! .. ولضيق المساحة استأذنك في متابعة حديثنا في الجزء التالي..