"قرص شمع النحل" هكذا كتب المؤرخون عن الهند لوصف حالة التشابك الثقافي التي ما زالت تعيش على هذا الواقع في مشهد لا ينقصه التماهي والانسجام . عاشت الهند التي كانت ومازالت ملتقى لكثير من الديانات والثقافات بفعل العوامل الجيوسياسية على واقع الغزوات الحربية والاقتصادية التي شكلت إثنيات وحضارة بلاد السند . فمع استيلاء الغزاة على هذه البلاد، كان استيراد الثقافة ، فقد أثر الغزاة في التاريخ الهندي وشكلوا جزءاً كبيراً من حضارته. فالمغول على سبيل المثال أثروا في حياة الهنود وما زالوا فمن فن العمارة إلى الأدبيات الثقافية وحتى المطبخ الهندي كلها تأثرت بالإمبراطورية المغولية، التي كان آخر أباطرتها بهدر شاه الثاني الذي توفي في منفاه في رانغون. ومن بعدها فترة الهند البريطانية أو الراج البريطاني والتي امتدت حتى 1947 . في تلك الأثناء لم تخل الهند من صراع حضاري بين أطياف مجتمعها المتلون بألوان ثقافية ودينية مختلفة ،ففي فترات متفاوتة نشأ صراع هندوسي سيخي ، وآخر إسلامي هندوسي وحتى بين طوائف أخرى تعتبر في آخر سلم الأقليات الهندية . إلا أنه وبالرغم من ذلك تعايش الهنود في تلك الجغرافيا ، دون أن ينسوا ان بلادهم الكبيرة تمزقت في بدايات استقلالها على خلفية الدين فكانت باكستان. في الواقع المعاش حالياً تعتبر الهندوسية هي الديانة التي يتبعها أغلب الهنود بواقع يتعدى ال800 مليون نسمة ، يليهم المسلمون ب 138 مليون نسمة ، فالنصارى ب 24 مليون نسمة ، وهذه إحصاءات رسمية صادرة عن وزارة الشؤون الداخلية الهندية . التحضر العشوائي تحدّ يواجه الحكومات الهندية إذن فالهند ثاني أكبر بلد إسلامي بعد اندونيسيا . يعيش المسلمون فيها بحسب تصريحات الحكومة بكل حرية ، فالوزير سلمان خورشيد وهو محامٍ وأحد الوزراء المسلمين في الحكومة يتحدث عن وزارته التي شكلت للعناية بمصالح الأقليات وخدمتهم. سألته عن ضرورة وجود تلك الوزارة في حكومة ونظام سياسي يصف نفسه " بالعلمانية " فقال : أنشأنا هذه الوزارة من أربع سنوات فقط ، وهي وزارة من وظائفها مراقبة الوزارات المختلفة المعنية بالخدمات وتدعم في ذات الوقت. تحدث خورشيد عن انجازات وزارته في مجال توظيف الأقليات ومنح الضعفاء منهم منحاً للدراسة ، وتطوير مهاراتهم للحصول على عمل. إضافة إلى تمكين نساء الأقليات لقيادة المجتمع . نخبة من المسلمين هاجروا مع ميلاد باكستان الدامي يرى خورشيد أن فئات من المجتمع تحب إثارة المشاكل. وبالتطرق لأكثر المشاكل حضوراً في ذهنية المسلمين هي حادثة المسجد البابري التي يقول عنها الوزير انها استغلت من بعض الأحزاب ، فغدت مسألة سياسية وخيوطها أصبحت متشابكة. في الواقع والحديث هنا للوزير سلمان خورشيد ان المسلمين بعد الانفصال الدامي في الجسد الهندي الذي رافق ميلاد باكستان .. تسبب في هجرة نخبة المسلمين من الهند إلى الدولة الوليدة، حيث بقي بعض المسلمين الذين استعادوا ثقتهم بأنفسهم بعد فترة من الزمن وأصبحت لهم مؤسساتهم الخاصة وأصبحت حالتهم وأحوالهم تتحسن إلى وقتنا الحالي . في إطار ذلك يقول نحاول تحقيق نمو قويّ بين الطبقات ونمنح التعليم لهم. في الهند أكبر ديموقراطية في العالم متعددة الأطياف دينياً يوجد أكثر من سبع ديانات وعدد من المذاهب واللغات إضافة إلى لهجات محلية ، وبالرغم من هذا التنوع الصارخ استطاعت ان تحوز هذا اللقب وحققت ما عجز عن تحقيقه بلد صغير كلبنان أصاب جواره العربي بصداع بحجة تنوعه وتعدد أطيافه. لم يمنع التنوع الديني والاختلافات المذهبية من حرمان طبقة على حساب طبقة أخرى قانوناً ، فالجميع سواسية في دولة لا يمكن تجاهل الدين فيها فهو إحدى ايقوناتها ولكنها ممارسة المسؤولية. مرت على الهند وجوه سياسية إسلامية قيادية بدءا من الرئيس ذاكر حسين ومرورا بمحمد هداية الله وفخر الدين علي أحمد إلى أبرزهم ابو بكر زين العابدين عبدالكلام الذي كان يلقب برئيس الشعب لقربه منهم واحترامه للديانات، إضافة إلى نائب رئيس الجمهورية الحالي محمد حامد انصاري . لم يحرمهم معتقدهم من تقلد هذا المنصب "الشرفي" الرفيع في دولة أكثريتها من الهندوس. هذا التنوع السياسي والثقافي لا يعني أن مناوشات وصدامات لا تحدث هنا وهناك ، بل وقع عدد منها ، ولكن ظلت تلك الاحداث في سياقها ولم ينشأ عنها حرب أهلية او نزعات انفصالية حديثة. يطرح بعض نخب الهند من المسلمين تساؤلاً حول مدى الثقة السياسية المنطلقة من مبدأ الدين . فيتساءل أحد المثقفين المسلمين الهنود قائلاً: لماذا لا نرى مسلماً في رئاسة الوزراء ، فالمسلمون أكثر تعداداً من سواهم من النصارى او السيخ . لا يخفي المسلمون هناك وجود تفرقة من ناحية المناصب والتوظيف ويثنون في نفس الوقت على تدارك الحكومة ذلك وتخصيص نسبة معينة في كل موقع حكومي لموظفين مسلمين او غيرهم من الأقليات بحيث لا تستأثر الأغلبية بكل شيء. وجه آخر من اوجه الديموقراطية في الهند وهي الصحافة حيث يستطيع الصحفي كتابة ما يريد لا قيود ،فهناك نوع من المسؤولية وأخلاقيات صحافية عالية عريقة يذكرها الصحفيون الهنود بفخر عندما أعلنت حالة الطوارىء في البلاد وفرضت رقابة على الصحف ، استجابت الصحف فاحتجب بعضها وصدر البعض منها بغلاف أبيض كرسالة لامتثالها لأمر الحكومة وكان هذا قبل ثلاثين عاماً .. تلك الحرية والاخلاق المهنية تنظر لها بإعجاب أكبر عندما تعرف ان عدد الصحف التي تصدر من الهند حوالي 300 صحيفة انجليزية و1800 باللغة الهندية و 4000 بلغات محلية مختلفة ، لذا فالهند اكبر الديموقراطيات ، والاعلام الحر يعني سياسة متطورة . في نقاشات دارت مع صحفيين هنود حول طبيعة العمل الاعلامي خصوصاً في ظل تطور الاعلام الاليكتروني والتحديات التي تواجه المسؤولين في ضبط المواقع أجاب أحدهم في الهند لا شروط يمكنك ان تؤسس ما تريد من المواقع وتبدأ .. مستخدمو توتير والفيس بوك ومدونون اصبحوا صحفيين ولا قيود. يتداخل هنا أحد كبار الصحفيين المخضرمين الهنود متحدثاً عن شكل التقاضي الاعلامي ، فيشير الى المجلس الهندي للصحافة الذي يلجأ إليه كجهة قضائية للنظر في القضايا الصحفية. الشراكة الاعلامية بين المطبوعات في المملكة والهند شراكة لها بعدها الاستراتيجي مع تصاعد نفوذ الهند السياسي والاقتصادي . ينتظر ان نشهد مطبوعة عربية تصدر من هناك ، لينظر المجتمع الملياري إلينا عن قرب فالصحافة مرآة للمجتمعات ، وأظن أننا بحاجة لتلك الخطوة فمن يعلق الجرس. في شأن الواقع المعاش بين افراد المجتمع الهندي يتضح لنا ان الهند قوة تنمو .. تصعد بقوة . ولكن هناك في الهند يكمن شيء ما . أمام المارة في شوارع دلهي وفي معظم الهند. يسكن في هذه البلاد التي تحتل مساحة جغرافية كبيرة في آسيا في مساحة تبلغ أكثر من 3 ملايين كلم مربع ويسكنها مليار وثلاثمائة مليون إنسان . يبلغ الفقراء فيها حجم سكان الولاياتالمتحدة ويتكاثر سكانها بحجم استراليا ، إذن فهي قوة بشرية هائلة .أمام تلك التحديات اعتقد ان على الحكومات العربية ان ترفع القبعة لحكومةٍ تستطيع اطعام هذا الكم الهائل من الافواه . جعلت النهضة الهند امام تحديات صعبة ومتنوعة فالتحضر العشوائي تجده على جنبات طرق العاصمة التي تلحظ على جوانبها مفترشي الارصفة وساكنيها ، عوائل بأكملها اتخذت من الرصيف ملاذاً لها . اعمال الحفر والترقيع في بعض شوارع دلهي تتم بشكل غير انيق يضفي على المكان نوعاً من الابتذال. المشهد السابق لاتجده في كافة ارجاء العاصمة ولكنه متوفر وفي بعض الشوارع الرئيسية ولكن شتان بين احياء وشوارع يقطنها نخبة المجتمع والذين هم في الواقع أثرياء بشكل فاحش يرتادون الفنادق لاحتساء القهوة ويركبون سيارات فخمة تباع بضعف المبلغ لدينا ويتنقلون بالمروحيات بين أحياء وضواحي العاصمة . هناك تصرفات تصدر من بعض افراد المجتمع الهندي يفترض بهم عدم القيام بها فهذه السلوكيات تضع على عاتق الحكومة الهندية مزيداً من التحديات لِما يمكن ان تخلفه تلك التصرفات من ضرر بالصحة العامة والبيئة ، لذا لا ينبغي مشاهدتها في اماكن عامة يرتادها المارة والناس .هذا لا يلغي بأي شكل من الاشكال إلغاء جهد حكومات تعاقبت على كرسي المسؤولية في الهند ولكن الوعي بأهمية ما يعنيه التحضر ليس المكاني او الجغرافي بل السلوكي هو ضالة بعض افراد المجتمعات الآخذة بالنمو . لكن كيف يمكن ان تطالب الناس بالرقي في الحياة وهم يعانون من الافتقار للأساسيات .. هذا ما قاله احد الهنود لي . ثم يشير أحد الأساتذة أن الإشكالية تكمن في مرشحي المناطق للانتخابات الذين يطلقون الوعود مع انطلاق الانتخابات وينسحبون من المكان للكرسي ومعهم وعودهم. في طريقي إلى " أجرا " المدينة التي اتخذها ظهير الدين بابر الامبراطوار المغولي عاصمة له كحاكم للهند. يستغرق االوصول لها حوالي الاربع ساعات . الطريق زراعية سريعة ولكنها لا تأخذ أكثر من أربع سيارات للمسارين بين هاتين المدينتين لا تشعر بانقطاع السفر. فالكثافة على الطرقات عالية خصوصاً كلما اقتربت من هذه المدينة التي تسكنها إحدى عجائب الدينا السبع " تاج محل " ضريح ممتاز محل زوجة شاه جهان التي أنجبت له 14 ولداً فأحبها وشيد لها ضريحاً من الرخام الابيض يمر بجانبه نهر جمونا وعلى الضفة الأخرى كان ينوي ان يبني ضريحه الخاص ويكسيه باللون الأسود ، لولا ان احد أبنائه اعتقله لإسرافه وأودعه قلعة تطل على قبر زوجته . الضريح يحيط به مسجد ودار للضيافة وهو متاح للجميع ما عدا الجمعة حيث يفتح المسجد الواقع خارج الضريح للمصلين من مسلمي أجرا ، المكان الذي تحيطه إجراءات أمنية مشددة بعد تهديدات " عسكر طيبة " بنسفه . لا يمكن الدخول له إلا بعد خلع الحذاء او وضع غطاء كامل عليه ، وفيه تمنع المأكولات والمشروبات والتدخين الخ... يأتي لهذا المكان أناس من ثقافات العالم .. ينظرون ، يتأملون ويتأثرون . بهدر شاه الثاني آخر أباطرة المغول