تمارس العين المبصرة دورًا أساسيًا في الشعر المنسوب للجاهليّين بعامتهم. تُظهر المناظر الطبيعية في صمتها وجمودها، ثم في حركتها وعنفوانها. يطغي فعل العين في الشعر الجاهلي على فعل الأذن، لذلك تبدو القصيدة الجاهلية وكأنها صامتة ترى ولا تتكلم، تصف ولا تروي، فتتحاشى النطق. تتفحص العين بفضول الطلول الدارسة، والحيوانات المتوحشة، وتتّبع باهتمام مثير للعجب التفاصيل الصغيرة التي تؤثّث مشهد الحياة الصحراوية: النؤي، الأثافي، حركة الظعن، ثيران الوحش، الكلاب، ومشاهد الصيد، وبالطبع حركة النوق في بواد شاسعة. لا يرن في الأذن الا همس خافت كأنه مناجاة للطبيعة، ومحاورتها بصريا. يتبادل الشاعر أسراره مع الطبيعة، ويعترف أمام الأطلال بماضيه، ويفصح عن حبه، ولعله يلمح إلى تشاؤمه من المستقبل. يتكدس كل ذلك في الشعر الجاهلي ما خلا الرنين الايقاعي الصاخب للسيوف عند عنترة بن شداد، وعمرو بن كلثوم، إذ تنافس الأذنُ العينَ. عيون لبيد، وزهير، وطرفة، والأعشى، والنابغة، وامرىء القيس يحكمها فضول لا نهائي في كشف فضاء الصحراء والتغلغل فيه، فيدفع بالحواس الأخرى إلى الوراء، ويكاد يمحو وظائفها، فهي مبعدة عن الوظيفة الاخبارية، فالعين سيدة الشعر الجاهلي. ما أشد ولعهم بالطلل الدارس، وهي الصورة الأكثر وضوحًا في بؤبو العين! الطلل كتاب غامض يصعب تبيّن حروفه، ناهيك بفكّ شفراته، هو طرس طبيعي خطّ عليه شعراء العصور الخوالي أساطيرهم الشخصية، وتجاربهم، وذكرياتهم، وتأملاتهم، بل نقشوا عليه أشواقهم، ومعظمها هجران وافتراق، وعليه فاضت دموعهم سخية، وهو لوح رملي كتب عليه مرارا وتكرارا، ثم محي ما كتب عليه برياح الزمن، لكن آثار التجارب الإنسانية عصية على الطمس، وعلى هذا تداخلت تجارب العشق وتمازجت، وفي كل مرة يمهر الطلل بذكرى يستحيل التخلص منها. تتداخل آثار الطلل فيما بينها، تتعانق وبعضها يكتنف بعضا لفّا ونشرا، وتكاد تحتضر تحت ثقل تجارب أخرى نقشت على الطلل. الطلل كتاب لا يقرأ إنما تتأمله العين البصيرة، وتخفق الذاكرة في ألغازه. فى كل مرة يريد الشاعر فيها أن يتجاوز ذهوله، ويندمج في الأفق الرحب للصحراء، تقيده عيونه، وتسد أمامه الأفق، وتوجه انتباهه إلى الطلل، أي إلى الديار التي يراها زهير كأنها "مراجع وشم في نواشر معصم" وهي نفسها عند الأعشى "مثل ظهر الترس موحشة" وقد ارتسم احتضارها عند امرىء القيس بالغياب والحضور "لم يعف رسمُها لما نسجتها من جنوب وشمأل" لكنها خرساء مرة عند النابغة "عيّت جوابًا وما بالربع من أحد" ومقفرة مرة ثانية "أقوت وطال عليها سالف الأبد" وفي المرة الثالثة ينتبه الشاعر فإذا هي "نؤي وأحجار" أما عند عنترة فقد صارت خالية لا أحد فيها "أقوى وأقفر بعد أم الهيثم". ما أوحش إحساس الشاعر بالديار، وكأنه كائن مفارق، لاسبيل إلى شفاء جرحه الغائر، فيداويه بعين تكتب له صفحة الطبيعة! الطلل صفحة اشتبكت على سطحها الخطوط والتجارب، كالخط في رق منمنم، كما يقول حاتم الطائي. الطلل مخطوط من أديم الأرض توارثه شعراء الجاهلية، وكل واحد منهم كتب عليه تجربته، فتداخلت التجارب فوقه وكاد يتلف الرق. هذه التركة من الكتابة والمحو حينما تنتقل إلى لبيد، تبعث لديه حالة من الترقب الصامت، فعيون لبيد دقيقة، تتابع التفاصيل وتغرق في ثناياها، ولطالما أثار اهتمامه كتاب الطلل الذي درست حروفه، وأصبح مكانا للوحوش وليس لبني البشر. "خلقًا كما ضمن الوحي سلامها" لأنه، حسب قول ابن النحاس: لا يتبيّن من بعيد لأن نقشه ليس بشيء مخالف للونه، إنما يتبين إذا تقربّ منه، ويستدل بعضه على بعض، بصعوبة لأن الأطلال مهجورة، خالية من الأنس. وقد نقل أبو الفرج الخبر الآتي" "نظر النابغة الذبياني إلى لبيد بن ربيعة وهو صبي، مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر، فسأل عنه فنُسب له، فقال له: يا غلام: إنّ عينيك لعينا شاعر". يقرأ النابغة الوعد الشعري في عيني الصبي. سوف تتدرب هذه العين الفتية لتصبح مرآة كاشفة لتجارب الشاعر ولعالمه البصري. لكن كتاب الطلل كتاب صامت عاجز عن النطق، لما لحق به من العبث المحمود الذي يقلّب صفحاته، وفي كل مرة تداهمه السيول يتخرّم، فتطمس آثار فيه لتتكشّف أخرى "زبر تجدّ متونها أقلامها". ويتحوّل عند لبيد إلى "رجع واشمة أسفّ نؤورها كففًا تعرّض فوقهن وشامها". والكتاب الحجري لا يفصح عما يحتوي إنما يمكن تخمينه على سبيل التأويل المفرط الذي قد يكون نوعا من التمحّل، لغته إشارات مبهمة تحتاج إلى مراس وحساسية شعرية فائقة، وإلى كل ذلك فالشاعر غير قادر على استنطاق الكتاب "صمّا خوالد لا يبين كلامها". لا تبين الاطلال عن نفسها، وإن كانت قادرة على الإيحاء بهويتها، يريد الشاعر أن تبادله الأطلال الكلام لكنها عازفة عن الحوار إلا مع ذاتها، الكتاب الحجري يمتنع عن النطق، حروفه رموز عن تجارب خالية. وبذلك ينتهي الأمر إلى محنة تخص الشعراء الجاهليين كلهم، فهل هم عاجزون عن قراءة كتاب الأطلال أم أن الكتاب مبهم إلى درجة الاستغلاق الذي يتعذر معه الفهم؟ حول هذه القضية انبثق الجدل بخصوص المقدمة الطللية. إذن مالذي يفسر تعذر قراءة الشعراء لإرثهم الطللي، وهل تقيم المناجاة معه حوارا خلاقا يثري تاريخ الشعر؟ هل هي العين الكليلة التي تمرّ على الطلل دون أن تغوص، لماذا تستكشف عين الشاعر الجاهلي كلّ شيء وتقف منذهلة عمياء أمام المرآة؟ العين البدوية فيها كثير من الذكاء والسحر، فكيف بعين شاعرة تتصفح الطبيعة؟ أنبأت عينا لبيد النابغة بشاعريته الآتية، وفي سلسلة من المطالب يتقدم بها النابغة إلى لبيد بأن ينشده شيئًا من شعره، فيلبّي ذلك. في المرة الأولى يؤكد أنه "أشعر بني عامر" وفي الثانية "أشعر من قيس كلها"، وفي رواية "أشعر هوازن". ولما ينشده "عفت الديار محلها فمقامها" لا يتمكن النابغة من ضبط نفسه، فيرتجّ عليه، ويهتف "أذهب فأنت أشعر العرب". مع أن أقوال النابغة اطّردت مع شعراء آخرين لكنها ربطت الشاعرية بالعين، فوسيلة التعبير بصرية، وعيون الشعراء تفضحهم. وما لبثت أن أصبحت هذه القصيدة معلقة لبيد، وكانت تثير إعجاب الشعراء. يروى أن الشاعر الفرزدق مرّ بمسجد "بني أُقيصر" وفيه رجل ينشد معلّقة لبيد بن ربيعة العامري، وحين بلغ قوله "وجلا السيولُ عن الطلول كأنها - زُبرُ تجدٌّ متونها أقلامها". سجد الفرزدق، فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: "أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر". قد يبدو غريبا أن يُنشد شعر جاهلي في مسجد إسلامي، لكنها التركة الذوقية الخصبة العابرة للحدود الدينية، فالكتاب الحجري الجاهلي عبر من عصر إلى عصر، وأعيد صقله بالرواية والتدوين في سياق ثقافي مغاير لسياقه الأصلي، ولكن ليس غريبا، على الاطلاق، أن يسجد شاعر فحل لقصيدة عظيمة، فلطالما سجد أسلاف الفرزدق لما يناظر الكتب الحجرية.