لا بُدّ من الاعتراف بأنّ الدولة العبرية هي أكبر دولة «مواجهة..!»، في الإقليم كلّه. فهي تملك حدوداً، أو خطوط مواجهة، مع أربع دولٍ عربية، إضافة إلى البحر الغربيّ المفتوح على كلّ المخاطر، ناهيكّ بخطوط مواجهتها مع الداخل الفلسطيني، بتعرّجاته المعقّدة، في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، المتعارف عليها ب«الخطّ الأخضر..». لا يمكن لشعوبنا أن تنهض من كبوتها وتتخلص من واقعها المؤلم إلاّ بعد ان تتجاوز كل خطابات التبرير المرتبطة بالممانعة، وتتخلى عن جعل الأوهام والشكوك والتخوين أسباباً لكل فشل.. واستبدال ذلك بنهضة علمية حضارية تحدد الأهداف والطرق السليمة لتحقيقها. وبصرف النظر، عن اتفاقيات التسوية أو السلام، فإنّ تلك الخطوط لا تزال استراتيجياً، بالنسبة إلى مفكّري المشروع الصهيوني، خطوط مواجهة. يؤكّد ذلك المخاوف والتحذيرات المحمومة، التي أطلقها زعماء الدولة العربية، منذ بدء حركة الثورات الشعبية العربية، وخصوصاً حين وصلت حركة الرحى الشعبية إلى مصر، التي ربطتها بها اتفاقية سلام ثنائية، استمرّت لأكثر من ثلاثة عقود ولا تزال. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت الدول العربية الأربع، وطوال عقود، هي الأعلى صوتاً، في الإشارة إلى أنّ كلّ منها هي دولة مواجهة، مقارنة مع الدول العربية الأخرى، وتبريراً لسياسات داخلية، على مستوى الحريّات والاقتصاد والأمن وغيرها. ومن دون أن تقارن واحدة من تلك الدول نفسها بأحوال الدولة العبرية التي تواجهها. وتزداد ضرورة الإقرار بهذه الحقيقة اليوم، في ظلّ التغييرات الجذرية، وعلى أكثر من مستوى، التي يعيشها كلّ قطر عربي على حِدة، وبدرجات متفاوتة. فبالديموقراطية، التي تخصّ سكان الدولة العبرية من اليهود، هزمتنا دولة المواجهة الأكبر، مقابل حُكم ب«الطوارىء..»، أو ب«الأحكام العرفية..»، في أغلب دول المواجهة العربية. وبالحرية الواسعة نسبياً والانفتاح لوسائل الإعلام، مقابل الإعلام الموجّه وسلطة الرقيب المطلقة، تمكّنت أيضاً من إدارة الصراع مع كلّ العرب مجتمعين.. والحقّ، أنّ تلك المقارنة لا تهدف إلى بيان التباين الفادح، بين طرفي الصراع نظرياً، في امتلاك وسائل القوّة وعناصرها، مقابل تخلّي الطرف الآخر (أي العربي) طواعية عنها. بل لتلمّس آثارٍ مدمّرة أخرى، ما تزال تنخر في الجسد العربي، وتكويناته الاجتماعية والسياسية الأساسية إلى اليوم، نتيجة لتبنّي أنّ فكرة المواجهة في تلك الدول تُبيح للحكم المحذورات، بتعطيل الحياة المدنية والعادية في حياة المجتمعات. وبالمقارنة أيضاً، فإنّ «العقيدة الصهيونية المسلّحة..» لا تعبّر أو تصوغ شكل كيانها الشخصي دينياً فحسب، بل تسعى وتريد إرغام خصومها وأعدائها على التحوّل إلى شكل ونمط واحد، مماثل لها تماماً، يطابقها في جوهرها التجميعي، والطارد ثقافياً للآخر غير المماثل. وهي عقيدة تتحكّم في الحركة الصهيونية والدولة العبرية، من قبل إنشاء دولة «إسرائيل»، بل من قبل بدء الحرب الكونية الأولى على الأقل. ويصعب إنكار النجاحات، التي حققتها تلك «العقيدة..»، طوال المئة عام الماضية. ولعلّ أبرز نجاحات تلك العقيدة هو ما يعمّ القارّة العربية، من مصائد وأفخاخ و«شِراكٍ..»، رسمياً وشعبياً ومعارضات، قوامها «تخوين..»، يقوم على اتّهام وتشكيك، بالعلاقة مع «العدو..»، بما في ذلك «الواقع..» والحالات، التي تشكّلت بعد توقيع التسويتين المصرية والأردنية ونصف التسوية الفلسطينية..!؟. ليس معنى ذلك أنّه ليس هناك «خيانات..» أو «خائنون..»،فالواقع حافل بالفكرة وأصحابها، وبصيغ وأسباب لا ترتبط بالحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين وجوارها فحسب. فالمقصود هنا، أنّ مفهوم «الخيانة..»، في الهزيمة المدويّة أمام تلك العقيدة، أخذ أشكالاً استقلت، في وجودها واستمرارها وحركتها وأسبابها، عن مصدرها الأساسي. فهزيمة الفكرة القومية وتطبيقاتها، أحلاماً وأحزاباً ونُخباً، بعدم تحقّق العمل المشترك العربي على أرض الواقع، سمح بتكون آليات تفتيت وتدمير داخلية، وتعمل بشكل ذاتي، قادر على استبدال كلّ ما فشلنا في تحقيقه من أحلام، بأوهام وأكاذيب وشكوك، لا علاقة لها بالواقع في شيء. ففُرشت الأرض العربية، وما تزال تُفرَشُ، ب«مصائد التخوين..»، من قبل العرب أنفسهم، بديلاً لعمليات قهر العدو وهزيمته. ودارت رحى «ماكينات هادرة..»، لاستفزاز طاقات، كامنة ومشحونة ومعطّلة، بحثاً عن «خونة..»، حقيقيين أو مُفترَضين، كبديل عن البحث عن «أعداء..» فِعليين..!. وبآليّة تطهّرٍ عجيبة، عمّت مجتمعاتنا، وثقافاتنا، قوى غامضة، قادرة على تحريك الجميع، ودفعهم قسراً إلى «شِراك التخوين..» والخيانة، ومن دون تمييز بين أفراد أو مؤسّسات أو دول. لتنطلق بعدها «غرائز المهزومين..»، بحثاً عن «ضحية خائنة..» لافتراسها، وكفى الله الأمة المهزومة «شرّ القتال..». ولعلّ الأخطر اليوم، هو مقدار تحوّل ذلك الخطاب إلى ثقافة شعبية، قادرة على رَشقِ الجميع بالتُهم، ومن دون تمييز، أفراداً وأنظمة ودولاً، وهو ما تحفل به المواقع الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي..!؟ لقد استنفد الخطاب العربي، كلّ أشكال التبرير، التي وفّرتها فكرة مواجهة العدوّ. بل أكثر من ذلك، فقد تحوّلت أجزاء من خطاب التبرير المرافق للمواجهة، على الرغم من كونه حقيقياً، في أجزاء منه حالياً، إلى عبءٍ على الخطاب نفسه وأصحابه، . ذلك أنّ أشكال المقارنة المتاحة حالياً، بين أحوال الشعوب العربية تحرق الحجج التي يمكن تقديمها، في سياقات الإختلاف. فالمظالم الشعبية في دول المواجهة المتراكمة، والفشل المزمن، في النهوض بالدولة على المستويات كافّة، جعل من التطوير الحقيقي، لأحوال تلك المجتمعات، أمراً لا يحتمل التأجيل، حتى لو كان في بعضها تنازلات قاسية، يصعب تفهّمها أو تقبلّها. لا تخرجُ الشعوب والأمم من محنها ومواتها، نحو فجرها ونهضتها، إلّا على مستويات وجودها كافّة. وأوّل ذلك النهوض هو على مستوى المعرفة والفكر، فبهِ يمكن تحديد الاهداف وطرق الوصول اليها بالبصائر قبل الابصار. وخلا ذلك، ليس هناك سوى الامعان في الغرق في مستنقع الاوهام والتشظّي، وهو مستنقع لا حدود لقراره..!؟