يستطيع مراقب الحراك المكثف والمتسارع في المنطقة أن يرصد عدداً من المؤشرات بعد قراءة الخطوط التي تتشابك وتوشك أن ترسم خريطة سياسية جديدة في المنطقة. يشترك في هذا الحراك معظم دول المنطقة والولاياتالمتحدة، وتكاد القراءة الأولى للمشهد تلمح الاتجاه الأغلب الذي يشيع التفاؤل في نقطة اللقاء الإقليمية والعالمية على الرغبة في السلام الإقليمي والتهدئة والتوصل إلى تسويات، بصرف النظر عن حظوظ الأطراف في هذه التسويات التي تقوم كلها على الصراع العربي - الإسرائيلي. لذلك يمكن تقديم الملاحظات الآتية: أولاً: تشير رسائل إيران وسورية و «حماس» الى الولاياتالمتحدة وإسرائيل، إلى رغبة بحل الصراع، وأكدت طهران للمرة الأولى بشكل قاطع أنها لا تعارض أي تسوية تقوم على حل الدولتين بما يعني التخلي عن فكرة زوال إسرائيل ودعم المقاومة، والاستعداد للاعتراف بإسرائيل في إطار هذا التطور، وربما الرغبة في المشاركة في كل جهود التسوية السياسية. ومن دون استعراض لتفاصيل التصريحات فإنها جميعاً تميل إلى الهدنة والتهدئة وتشجيع التسوية السياسية. ثانياً: تشير الرسائل المصرية والسعودية بالذات إلى أن السياسة الأميركية في المنطقة لن تستوي إلا بتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي. وأن المنطقة العربية مستعدة لتشجيع إسرائيل وتحفيز الولاياتالمتحدة للمشاركة في هذا التشجيع والعدول عن البرنامج المعاكس الذي أعلنه نتانياهو الذي لم يعترف بأي أفق سياسي ويكرر أنه يقبل فقط بحكومة حكم ذاتي إداري وليس دولة لها طابع سياسي، مع إمكان بحث مثل هذه الدولة بمواصفات معينة تناسب نظرية الأمن الإسرائيلية. ثالثاً: في الجانب الآخر، تطرح إسرائيل هذه الأفكار كأنها في حال مفاوضات مع العربي والفلسطيني والأميركي إلى حد ما، وكأن نقطة لقاء مشتركة توشك أن تتبلور، وأن تسوية شاملة توشك أن تظهر على نحو ما أعلن أبو مازن خلال زيارته القاهرة في 6 أيار (مايو) الجاري. رابعاً: إذا قاربنا بين كل أطراف الحراك، أمكن أن نتصور أننا إزاء مشروعين مختلفين: الأول هو المشروع الإسرائيلي - الأميركي في ثوب جديد وبالأهداف نفسها، مع اختلاف في شكل التحالفات والأدوات. في هذا المشروع يتم إنهاء المقاومة العربية التي أفشلت المشروع في البداية وإعداد العالم العربي لدور بارز يقوم بموجبه بعدد من الجهود إذا أراد لواشنطن أن تضغط على إسرائيل لكى تقبل حل الدولتين، من دون أن تضمن تنفيذ هذا الحل على الأرض، لأن واشنطن ترى أن الموافقة على هذه الصيغة هي أهم تنازل يقدمه نتانياهو من الناحية النظرية حتى يمكن بعد ذلك إجباره على التخلى عن مشروعه في المنطقة، والعمل لتنفيذ هذه الصيغة التي لن تتحقق على الأرض. مقابل هذا التنازل النظري، مطلوب من العالم العربي أن يشاطر إسرائيل خوفها من الملف النووي الإيراني، وأن يصطف معها ضد العدو المشترك الجديد، مثلما كانت واشنطن تدعو العالم العربي في بداية الثمانينات من القرن الماضي إلى اعتبار موسكو وليس إسرائيل العدو المشترك «لنا جميعاً» بحسب مقولة ألكسندر هيغ وزير الخارجية عام 1981 بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان، وكانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ العلاقات الدولية حتى الآن. مطلوب من العالم العربي أن يوجه جهده السياسي والإعلامي وإعداده العسكري لمساندة أي هجوم أميركي أو إسرائيلي مدعوم أميركياً على إيران لإخراجها من المعادلة الإقليمية تماماً وفق المنظور الإسرائيلي. وإذا تحقق ذلك، يجف مصدر دعم المقاومة وتستقر قواعد التسوية بالمفهوم الإسرائيلي، ويصبح سهلاً على الدول العربية أن تحل محل القوات الأميركية في العراق وأن تحل قوات إسلامية محلها في أفغانستان. حاول المشروع الأميركي - الإسرائيلي تحقيق ذلك مع إيران والمقاومة والعراق ولبنان منذ وقت طويل لكنه عجز في المواجهة العسكرية، ثم يلتف الآن لإخماد مصدر المعارضة للمشروع وهو إيران، بعد أن قدر أن التكاليف السياسية للحوار مع إيران ستكون باهظة، وأنها ستثير قلق الحلفاء العرب وإسرائيل تجاه نيات الولاياتالمتحدة. المشروع الثاني، هو المشروع الإيراني، الذي يحاول أن يقلل مخاوف إسرائيل ويأمل بأن يمضي بالملف النووي على رغم كل الأنواء وأن يحتوي الضغوط. ويظهر في هذا المشروع تصميم إيراني نهائي يقابله تصميم إسرائيلي نهائي، لأنه إذا تم إنهاء المشروع الإيراني النووي بالهجوم عليه، فلا حاجة بعد ذلك للحوار مع إيران. أما أمل إسرائيل في إنهائه بالحوار فيبدو مستحيلاً. في سياق هذا المشروع لا بد من أن تكون طهران قد فكرت في المكان الذي تقف فيه إسرائيل ومدى استعدادها هي للاعتراف بإسرائيل ووقف المقاومة في لبنان وفلسطين وتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية ما دام دعم المقاومة هدفه تعظيم الأوراق السياسية، أما الملف النووي فهو الورقة الاستراتيجية الحاسمة. مما تقدم يتضح أن المنطقة مقبلة على مواجهة واضحة بين المشروعين، المشروع الأميركي - الإسرائيلي الذي يحتوي غضب العالم العربي ويرضيه بوعود نظرية أملاً في ضمه إلى قافلة العداء للمعسكر الإيراني، والمشروع الإيراني الهادف إلى الفوز بملفه النووي وبحوار يضمن لإيران دوراً ومكانة في الإقليم بما في ذلك تسهيل خروج القوات الأميركية من العراق، واستخدام الأوراق الأخرى في صيغة للتعاون مع الولاياتالمتحدة. سماوات المنطقة لا تزال مزدحمة وأظن أن العالم العربي سيكون الخاسر الوحيد في هذه الملحمة بسبب عجزه عن إيجاد منصة مستقلة، وتهافته على التسوية في شكل معقول من إسرائيل التي تعيش هاجس استمرار المشروع الصهيوني بأي ثمن. إذا ضُربت إيران وأُسكت صوتها، فازت الحكومات العربية بالرهان ولكنها تخسر أمام المشروع الصهيوني. أما إذا تمكنت إيران من الرد فالدول العربية هي أحد أهداف هذا الرد، وتكون قد حاربت معركة عدوها التاريخي من دون أن تدري، أما إذا نشطت المفاوضات الإيرانية - الأميركية فستحدث التنازلات المتبادلة في منطقة الفراغ العربي. * كاتب مصري