على الطريق إلى الميقات أو أبيار علي أو ذي الحليفة حيث تعددت تسمياتنا له ونحن في الحافلة، وهو واحد، لاحت لي بعض الجِمال ذات اللون الرمادي القاتم والقريب من السواد. أعرف انها تسمى في ثقافتي البدوية بالمجاهيم، وكثيرا ما تمنيت رؤيتها مباشرة.. لكن لم يحدث ذلك رغم حرصي الكبير على تحريها في كل ما يمكن أن أجدها فيه. ها هي الآن أمامي سادرة في رحابة المكان وغوايته بالنسبة لي بالتأكيد ومن يدري؟.. ربما لها أيضا. نسيت الوقت وأنا أرقبها من نافذتي.. وكلما مررنا بقطيع منها تقاوت حسرتي في داخلي وتنامت حتى يلوح لي قطيع آخر منها.. اكتشفت أنني أعرف الكثير من الثقافة الخاصة بالإبل؛ أوصافها، وأسماؤها، وألوانها، ومراحلها العمرية.. وغير ذلك من معلومات استقيتها من حكايات البيت وذكريات العائلة وقصص الجدات.. منذ طفولتي، واستكملتها ببعض القراءات والمشاهدات الحية ثم توجتها بجانب من المعايشة ل "حلال" أحد أشقائي العاشق بدوره للإبل وعوالمها السارحة في آيات الجَمال ودقائقه كما أراه في مفردات الصحراء. وعلى الرغم من أنني اقتربت فعلا من عالم الإبل في أكثر من مرحلة من مراحل حياتي الا انه ظل اقترابا ناقصا.. فلم أصادف مرة على الطبيعة قبل ذلك إبلا مجاهيم في أي من تدرجاتها اللونية المختلفة، ذلك أن المجاهيم تسمية عامة لمظلة واسعة من اللون القاتم تستظل تحتها ألوان أخرى منها الزرق والصهب، في حين تقابلها مظلة المغاتير الباهتة والتي تضم الشقع والوضح والحمر والشعل.. و...و..و...ويا إلهي؟.. تداعت المعلومات وتناسلت التفاصيل وضجت ذاكرتي بكل معارفي التي تطوف في فضاء الآية القرآنية المدهشة في تساؤلها البسيط العميق:(أفلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)؟.. استرسلت لرفيقتي في الرحلة أشرح لها الفروق الدقيقة بين تلك الألوان وتدرجاتها في عالم الإبل، وعندما تعمقت في تفصيل الفرق الدقيق بين صفر المجاهيم وصفر المغاتير استوقفتني تلك الرفيقة والتي تعيش معي في البيت نفسه منذ ربع قرن تقريبا مندهشة من كل هذه المعلومات التي رأت أنها لا تتناسب وطبيعة معيشتي ذات النمط المدني الحديث.. هل نحن نتكون وفقا لطرائق المعيشة وظروف الحياة أو وفقا لتصاريف الشغف وما يحيل إليه؟ من بين هذا وذاك تحصلت على معلوماتي التي ما زلت أراها فقيرة مقارنة بشغفي المتعاظم لذك العالم الصحراوي الجليل. سبق لي وأن رأيت الشقح والوضح والصفر والشعل...و...وظلت المجاهيم عزيزة الى أن جاءتني رحلة الحج الآن بمفاجأة من مفاجآتها الجميلة.. وها هي الآن مجاهيمي ترعى اليباس وبعض الحشائش الصامدة بهدوء على جانب واحد من الطريق.. كنت أتمنى لو ان قائد الحافلة أبطأ قليلا في سيره.. لأصورها على مهل، كنت أتمنى لو أنه توقف لأنزل من الحافلة وأذهب لمجاهيمي التي لا بد أنها تنتظرني كما كنت أنتظرها. لكن القطيع تلو القطيع كان يمر عليّ وأمر عليه يفصلنا عن بعضنا البعض الهواء السريع وحده على هامش سرعة الحافلة.. التي وصلت الهدف المتوقع أخيرا..أبيار علي. حتى أنا التي أعتبر نفسي ممن استعد لرحلة الحج ببعض القراءات التاريخية كنت أظن ان التسمية التي سمي بها ميقات الاحرام لأهل المدينة ومن يحج منها من المارين نسبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، لولا أنني عرفت بعد عودتي من الحج واستعدادي لهذه الكتابة أن التسمية تعود لعلي بن دينار سلطان دارفور في غرب السودان قبل مائة عام تقريبا.. لقد جدد هذا السلطان المسلم مسجد ذي الحليفة عندما رأى حالته المزرية في تلك الأيام وهو في طريقة للحج انطلاقا من مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يكتف بذلك بل أقام بعد عودته من الحج مصنعاً لصناعة كسوة الكعبة، وظل طوال عشرين عاماً تقريبا، يرسل تلك الكسوة المهيبة إلى مكةالمكرمة لتكتسي بها جدران كعبتها.. هل يعلم الكثيرون الآن ذلك التاريخ الذي امتد على مدى عقدين من الزمان ومسافات واسعة من المكان ما بين مكة والسودان في ذلك الزمان الغابر..المضيء؟.. لا أظن. نزلنا لمسجد ذي الحليفة واتجه بعضنا الى المسجد نفسه للصلاة والبعض الآخر الى مكان الاغتسال من أجل الإحرام من يريد أن يعتمر لغيره فقط، أما من يريد تكرار عمرته لنفسه والحج فله أن يكتفي بإحرامه الأول، هكذا كانت التعليمات التي تبرع أحد العارفين بشرحها لنا.. وكنت ممن جدد إحرامه في المكان، فقد نويت أن تكون عمرتي الثانية لوالدي.. رددت نيتي تلك بيني وبين نفسي مصحوبة ببعض الأدعية.. وانطلقنا إلى مكة.. لم يعد أمامنا سواها.. سنعتمر إذاً مرة أخرى كل وفق نيته لنفسه أو لغيره، ثم يحين موعد شعار الركن الخامس من أركان الإسلام: الحج نفسه. كل ما فعلناه حتى الآن طواف حول المعنى الكبير وتحضير لنا كي نؤديه بما أوتينا من استعداد.. وها هو سبيلنا الذي استطعناه إليه.. أليس الحج لمن استطاع إليه سبيلا؟. (يتبع..)