عندما بدأت الفضائيات تتكاثر صار الريموت كنترول مثل دركسون السيارة في أيدي المراهقين. من يلتقطه أولا يقود الجلسة، يقلبه ذات اليمين وذات الشمال. في نهاية الأمر لا تتذكر ما شاهدته لأنك في الواقع لم تشاهد شيئاً. يبقى في ذاكرتك قليل من الصور والأضواء والأصوات. الناس للتو خرجوا من سجن القناتين. لا يعرفون ماذا يريدون. كانوا في حاجة للأخبار وفي حاجة للمعرفة وفي حاجة للترفيه وكل شيء آخر؛ شرط ألا يعيدهم أو يذكرهم بالقناتين. تنامت الفضائيات كأعشاب في حديقة مهجورة. قنوات أخبار، قنوات رقص وأغاني، قنوات دراما، قنوات تفسير أحلام، قنوات إخراج جن وإدخال أيضاً، قنوات شتائم طائفية.. إلخ. يمكن القول اليوم أن القنوات الفضائية استقرت في البيوت وشقت طريق تناميها بغض النظر عن التضخم والزيادات التي قد يأتي بها المستقبل. أصبحت جزءاً أساسياً من البناء الثقافي للإنسان الحديث. يترافق هذا المزود الثقافي مع الإنترنت ويتكامل معه. دخلت مرة على موقع لأتأكد من معلومة عن الحرب العالمية الثانية، سارت الأمور من موقع إلى آخر، فوجئت في نهاية الجلسة (بعد ساعتين) أني أتفرج على أغنية العباة الرهيفة لفهد بن سعيد. تذكرت الجلسات الإخوانية التي يتقلب فيها الحديث من مكان إلى آخر الذي يطلق عليه (حديث ذو شجون). مكسبك الوحيد فيه سعة الصدر. إذا قارنت هذا مع ثقافة القناتين والكتب والمراجع الصلبة المتجهمة التي كنا نلجأ إليها أو بالأصح مفروضة علينا في الماضي ستصرخ عند تخيل المستقبل الذي يتنظر الشباب اليوم الذين يتربون أو تتأسس تربيته الثقافية على هذا النوع من التدفق المعلوماتي المفكك والمهترئ. تذكرني هذه الثقافة بالعبارات التي كانت تلخص وعي الأولين عن مفهوم المثقف (أخذ من كل علم بطرف). في الماضي لنقل القرن العشرين بأسره كان الإنسان يتناول المواد الثقافية بجرعات متكاملة. لا تسمح المصادر القديمة بتجزئة المعلومات إلى نتف. فالحرب العالمية الثانية على سبيل المثال موجودة في كتب أو في موسوعات بين يديك أو يقدمها التلفزيون في صورة متسلسلة متكاملة تنتهي بمعرفة كل شيء عن هذه الحادثة التاريخية وقس على ذلك كل المعلومات الأخرى في الرياضة في الفن في الجغرافيا.. إلخ. لا أظن أن كثيراً منا راض عما يجري الآن. ما الذي سيكون عليه رجال ونساء المستقبل الذين تربوا على الفضائيات وثقافة الإنترنت المبعثرة؟ عندما تنظر إلى العالم من حولك من الصين إلى كمبوديا ونيجيريا وأمريكا والسويد إلى نهاية العالم سترى نفس ما تراه أمامك وفي بيتك. الثقافة المبعثرة أو نتف المعرفة إذا جازت التسمية. إذا كان ما يحدث سيىء ومضر بالإنسان فالمسألة لا تخصك وحدك. المسألة عالمية. حتى هؤلاء الذين نشك أنهم يتآمرون على العالم ستجد أن أبناءهم واقعون في نفس المأزق. فكرت مرة أن انتزع أبنائي وبناتي من هذا العالم المبعثر وأقدم لهم ثقافة حقيقية لكني اصطدمت بكلمة حقيقية، ما الذي يعنيه أن آخذ أبنائي عن عالمهم وأعيدهم إلى عالمي. المثل شعبي يقول (الموت مع الجماعة رحمة). إذا كان التكوين الثقافي للإنسان في المستقبل هكذا، فلماذا يكون ابني من جهلاء وحراس الماضي في المستقبل.