من الظواهر الإيجابية المعاصرة توفر المساحة المناسبة لصاحب الموهبة أيا كانت، لكي يتمكن من الحضور والتواجد في دائرة النور وفي الغالب يفتح له الطريق نحو الصدارة. ولكن ليس كل حضور يعد تميزا ولا تواجد الشيء يكون نافعاً، لأن الكيف أهم بكثير من الكم في كل شيء تقريباً. والشعر أحد هذه الأشياء التي لها أن تحضر أو تغيب، فحضوره ضرورة كوسيلة تعبيرية مهمتها إيصال رسالة وتغيير حالة وتعميق فضيلة وتعبير عن إحساس ولكن بشرط أن يظهر قوياً معبراً وصادقاً ونافعاً ومؤثراً، أما الشاعر فليس بالضرورة أن تكون بداياته ذات مخرجات تحقق هذه المواصفات، ولكن يفترض أن يهدف لها ولا يحيد عنها متأثرا بالرغبة في التواجد فحسب. الشعر كونه وسيلة تعبيرية صار قناة مقبولة له مريدوه وجمهوره العريض، يظهر من خلاله صوت صاحبه وترجمة مشاعره وإحساسه، بل وشخصيته ومن هنا يخشى أن ينجرف أحيانا نحو مغريات الشهرة وبريق النظرات وأصوات التصفيق، فينسى رسالته. لا أحد ينكر البدايات الضعيفة والهزيلة لكل مجالات التعبير: كتابة أو خطابة أو إلقاء أو قراءة أو كتابة أو شعر أو قصة أو رواية ..الخ حتى أن كل من وصل القمة (إن صحت العبارة وكان هناك قمة) يدرك تماما أنه كان في الحضيض وقت البدايات ، بل إن من المشهورين والبارزين من يتوارى من أوليات إنتاجه ليس لأنه ينكرها بل لأنها لا تقارن بغيرها بسبب ضعفها حتى أنه يشك في كونها من إنتاجه لولا يقينه بانتمائها له . ومن ذلك الشعراء، فإن لهم بدايات ركيكة ضعيفة مكسورة هزيلة ميتة الجماليات عديمة الفنيات مهلهلة التراكيب، وهذه حقيقة ليست تجنيا عليهم ولا رميا لهم بمنقصة أو حطا من قدر أحد. جوهر الحربي البدايات لمشي الإنسان زحف ثم حبو ثم خطو وسقوط وقيام، ثم مشي معتدل وقفز وفوز في سباق. إن لحلاوة الشهرة والحضور والتميز طعم، ولهذا الطعم تبعاته، بل ربما يحمل داخله مشبك السنارة ومسمارها الذي ينشب في مستقبل من يتلقمه، وهذا لا يكون إلا لمن يطمع فيه ، ويجعل من ذلك غاية . من يطلع على الساحة الأدبية والشعر بالذات (وهو موضوع هذا المقال) يجد الإيجابية والتعافي، بعد فترة من الخمول والغياب، ولكن هذا التعافي جاء مصحوباً بشيء من الاندفاع والحرص على الوصول للواجهات والنهايات دون المرور بالمقدمات عند البعض ، ويمكن أن توصف هذه بالفقاعة الصابونية أو البالونة الهوائية. من هنا تكمن الخطورة، ومن هنا بدأ الكثيرون في قلق، واصفين الحال بأنها ليست كما يؤمل، فهناك شعراء وهناك مستشعرون وهناك متسارعون بلا شعور وهناك من يريد الشعر بالعجراء والمشعاب، وهو أيضا من قبيل التمني والإنسان حر فيما يتمناه ولكن لابد له أن يملك أدوات تحققه فالتمني وحده لا يكفي ولو كان في بعض الأحيان يشعر صاحبه بالارتياح قبل ظهور الحقيقة كأحلام اليقظة. تقول مويضي الدهلاوية ، عجمية : أمي تقول أن التمني سماجه وأقول أن بعض التمني به أفراج ومع هذا الاندماج بين الشاعر الذي يستحق أن يتواجد وآخر ليس مكانه ساحة الشعر ظهر ما لا حصر له من القصائد وقائليها، المكسور والمجبور والقوي والجزل والهزل والعالي والهابط والطائل والقاصر والدارج والساذج والهائج والسامج والمائج ...الخ وظهرت قصيدة سريعة لمجرد التواجد توصف بأنها نصف استواء أو لا تزال نيئة، وقصائد مناسبات ولدت بعملية بالقوة والضغط وبقيصرية، لأن قائلها يريدها أن تظهر في الحال لأن الوقت داهمه ولا يسمح لها بالتأخير والنضج، حتى لا تفقد مناسبتها فيفقد مكانه لكن ليس مهما أن تفقد رائحة إحساس وشعور قائلها، ومثلها قصائد الحالة المفاجئة، وبعض هذه القصائد تتعسر فتموت و ربما يموت صاحبها مع موتها، وهناك قصيدة الجوكر، نسجها واحد ويمكن تغيير العنوان للتطابق مع كل حالة . وهذا البحر الهائج والمائج يؤمل أن يفرز نتائج إن لم تكن إيجابية ذات قيمة نافعة فعلى الأقل لا تكون ضارة، ويكون نفعها ولو في مجال التجارب والخبرات والحراك العام والتوجه الفكري بالضرورة . على أن هناك من يرى العكس، ويعتبر ساحة الشعر خاصة الشعبي يعاني من معضلة ومرض عضال جراء دخول ميدانه من لا يحسنه بل ويسيء إليه بإنتاج لا يرقى إلى مستوى القبول فضلا عن التميز . ويرى بعضهم أن المشكلة تكمن في انحسار النخبة .. لأن فرض الحاضر بكل سلبيات مكوناته أوجد مستوى متفاوتا جمع الشعراء والمتشاعرين وبالتالي تكون البذور المناسبة المتناثرة تتطلب من يجمعها من بين العديد من الطفيليات أو التي يتهمها البعض بالطفيليات ، وآخرون ينصفونها ويرفعون من شأنها ويصفونها بالبدايات والمحاولات، ولعل الغيرة من الآخرين تحاول إحراقها في الطريق وقبل الوصول . إن الشاعر قبل أن يقدم إنتاجه إنما هو يقدم نفسه، ومن هنا يكون منبع الحرص بالنسبة له. ومن المؤكد أن الشعر مع الموهبة تراكم خبرات واطلاع وفكر وقراءة وإحساس وتجربة وفي النهاية نضج ومساهمة فاعلة. ونقف في نهاية هذا الكلام عند تساؤل لابد منه حتى ولو كان الجواب وجهة نظر : هل فعلا انحدر مستوى الشعر الشعبي في الوقت الحاضر؟ الجواب طبعاً لديكم ولكن نقف مع شاعر قابل الشعر في مرضه نائما في سريره يشكو حاله ويوصي من يزوره . هذا ما تبوح به قصيدة الشاعر الذي قام بزيارته، واطلع على حالته وتعرف عليه بهيئته.. يقول الشاعر جوهر غالب الحربي: صدفه لقيت الشعر في قسم الأعصاب يبي يشق الثوب و محجزينه وأسمع وراه بغرفته صوت وطلاب أحد يبي يحماه وأحد يدينه وسألت عنه أهل العنايه والأطباب وش صاب حال العود يا معالجينه قالوا مريض ودخّل أشهار منصاب والظاهر انه مقفيات سنينه قلت أبا زوره عجلوا فكوا الباب قالوا مريض ويزعجك في ونينه قلت أن هجرته عمد يلحقني أعتاب تكفون لا تقفون بيني وبينه قالوا تفضل دون تقييد وحساب لو كان حال العود ماهي بزينه وجيته وهو من ضجة الناس مرتاب وقام وتنهض في وقار وسكينه عليه من لبس العيادات جلباب وسلك المغذي رابطه في يمينه وحبيت خشمه وأقبل الدمع سكاب وأبطى يطالعني بعين حزينه جسمه نحيف ولحيته كلها تراب وبعض الكوايا واسمات جبينه معروف ما بين القرايب والأجناب شكل بدوي معروف مله وطينه قلت انت وشلونك عسى ما بك أسباب وقام يتلقف عبرته في يدينه قلت أنت لا تبكي ترى عندك أقراب قرابة المولود من و الدينه ومش الدموع وقال ويش أنت يا شاب فلان وبن فلان وفلان وينه ناس ثنوا من دون حقي ولاغاب يوم إنهم حيين متوارثينه متوارثين الصيت والصيت ما خاب يا طيب صيتي عندهم حافظينه حامينني من كل جاهل وغصاب من مد كفه للعبث خاصمينه واليوم شوّه سمعتي كل مغتاب يلعب على الحبلين محد يهينه إلاّ قليل من كثير العرب طاب تالي رجايه عقب ذقت الغبينه لعلهم يبنون بيتي بالأطناب في وجه صلفات الليال المتينه وحقي عليهم ذب تسعين كذاب ومن فوق هذا شرهتي بالثمينه وإن ما فعلوا هذا فأنا مالي أصحاب بكره تبي تصبح عظامي دفينه بلغ لي الشعار في كل الأشعاب تراك في حكم الوصيه رهينه وأنته تنوب وكل شاعر ليا ناب يصبح كما الربان فوق السفينه إما طلع و الا هفى هفية غراب والشعر ما هو شي لولا سمينه بلغ شواعير النبط تصدر كتاب عن عالم شعر النبط ظالمينه قلت الوصيه واصله مابها طلاب أبداً تطمن والمراسل أمينه وقام وتلحف وأنسدح وأغلق الباب وبعد المرض عادت عليه السكينه ومما لاشك فيه أن هناك الكثير من الشعراء المبدعين الذين يشكلون أساساً قوياً ومرتكزاً ينهل منهم جيد الشعر وجزله، وهم بعطائهم المتميز وهج الساحة الأدبية والضابط لمسيرة التميز الشعري، يحترمون الآخر ويقدرون الكلمة والموهبة وعندهم للموقف قيمة، وتثمن لهم جهودهم ومواقفهم التي يبذلونها صادقة فيجعلون الأمل ينبعث متجدداً في حروفهم في حيوية وتفاعل، وتقتبس من أشعارهم الحكمة والتوجيه والأخلاق والفضائل ويقومون بتوجيه المتلقي للمبادئ الخيرة ويؤثرون إيجابا في الذائقة العامة. أما الشعر على وجه العموم في زماننا الأخير وبالذات الصادق منه فله إخوة يدافعون عنه ولا داعي لأن يبكي في وحدته وانعزاله ومحاصرة المرض له، وأؤكد أن الشعر الشعبي أو النبطي والذي تسلل في غفلة منذ ما يزيد على أربعة قرون وقت ضعف اللغة العربية وزيادة العجمة واللحن وهيمنة العامية واستعذابها كونها لهجة الغالبية، يتمتع بجماليات فنية متميزة ولكن الضعف جاء من نافذة التوجه الفكري واتجاهه ولم يأت من جانب التوجه الفني والجمالي والإبداعي بل ولا حتى البلاغي وجزالة وفخامة اللفظ، فالشعبي بقي محافظا على كل تلك الجماليات ولكنه يحتاج تنشيطاً فكرياً وضخ معطيات حضارية كثيرة في وريده، ويمكن الارتقاء بهذا الجانب لكي ينتعش قبل أن يوصف بالمريض ويبقى في سرير المرض طويلاً. وبقدر ما يكون عليه رواده من إبداع وموهبة وحسن انتقاء وترفع عن الرديء فهو في تألق مستمر، وكلما كان وسيلتهم الصادقة وصادقين معها في التعبير والبوح والإسماع فإنه لابد سيوصل رسالتهم واضحة ومفهومه، والعكس صحيح. الشعر ليس مكانة يتسابق عليها الناس تشريفاً ومركزاً وحضوراً اجتماعياً من أجل التربع على سدة حكمها ورئاستها ليشار لهم بالبنان لا أكثر، ولا هو من أجل الحصول على شرف ما ومرتبة يمكن الحصول عليها بتكرار الحضور والتواجد، ولكنه ترجمة لحس راقٍ وموهبة تصقلها التجربة وأدب رفيع له وزنه وقدره، وبقدر ما نترفع بفكرته وهدفه نسمو ويسمو معنا.