من المؤكد أن أي شاعر لا يريد لبيت من أبيات قصيدته أن يكون مصدر عداء ولا أن يوصف بالضعف أو عدم القبول فضلا عن تجاهله بالكلية إلى حد الفناء السريع له ، بل وربما الوقوف أمام من قاله موقف الخصام ، وبالتالي إن حصل هذا فإنه يمسح من الذاكرة بل ربما منع من دخولها أصلا ، لكن مع هذا فبعض الشعراء يضع قصيدته أو شيئا منها في دائرة التجاهل التي يحذر الكثيرون منها رواية وتدويناً ، فتكون خارج إطار السياق الاجتماعي المسموح به ، فتنزوي أو تروى على استحياء أو تموت وتنصب ضد إنتاجها مجانيق الصد والرد والرفض، وأخطرها الرفض الخفي الذي يعبر عنه الرأي العام المتلقي، أما الرواة فإنهم في الغالب يقبلون على المقبول وينفرون من المرفوض . وهل يعقل أن يقضي الشاعر على نفسه من خلال الهبوط وهو قادر على الصعود؟! إن الشعر قول حسنه حسن ، وسيئه سيئ ، هذا لا جدال فيه وهو القاعدة التي يبدأ الانطلاق منها ، فمتى ما أخذ القائل وهو الشاعر هنا ، بجانب الحسن في مضامين شعره فقد أخذ بأسباب البقاء لقوله وأشرقت شمس شعره وصار ضياء كلماتها نفعاً ومعانيها فائدة وروايتها شرفاً واقتناؤها مكسباً ، وبقي عليه أن يكمل ذلك بالجمال والكمال البلاغي والبيان والحبك والإتقان وكل ما يتصل بالشعر من جماليات ما دامت المضامين طيبة النبت حسنة المقاصد . ولكنه إن أخذ بالجانب السيئ من سب وشتم وهجاء ورشق لهذا وذاك وضم لكل هذا التعدي على القبيلة والموطن والمجتمع فإن هذا يعني تحطيم الجسور ومن ثم بناء جدران الصد ضده وضمه إلى قائمة المعادين . قصائد الشعراء وإن كانت إحساسهم الخاص وترجمة لشعورهم ورؤيتهم ، وإن كانت أيضا تعبيرهم الحر إلا أنها في النهاية موجهة للمجتمع ، أو بمعنى أصح رسائل إلى المتلقي ، وكل ما يتناسب معه يعد ضوابط أولية في الإطار العام الديني بحيث لا يتجاوز حدود ذلك الإطار مهما كانت الأسباب ، إذ لا يوجد سبب واحد يخول الشاعر القفز خلف الخطوط تلك ، كما الشاعر في حقيقة الأمر ليس حرا حرية مطلقة غير مضبوطة ، بل هو محدد التحرك . ففي كل أو جل أغراض الشعر يسمع الشاعر صوته الآخرين ، ولا يكتفي بالتعبير لذاته ، فذاته في غالب الأوقات غير مقصودة ، وإن عبر عنها وشكا منها إليها إلا أنه يقصد الإسماع ونشر القصيدة ، هكذا طبيعة كل قول ومنه الشعر . فالهجاء تشويه ، والمهاجمة عداء ، والمدح تنقية وتلميع ، والوصف بيان وبراعة ، والرثاء شكوى وتحسر أو مواساة ، و النصح مشاركة ودلالة والكلمة تقدم قائلها وتخلفه وتحيط به ، تظهر في كل موقف فإما أن تجمله أو تشوهه فهي تابعة له إن أمسك زمامها أو هو تابع لتأثيرها إن لم يمسك بخطامها منذ البداية ، وبالتالي فهو أي الشاعر يتوارى من سوء الكلمة أو يشرق محياه من طيبها . وما دامت ذاكرة المجتمع هي الوعاء الذي يستقر فيه المخرج النهائي للشاعر فإن ما يستقر في هذا الوعاء تطول مدة بقائه بناء على القبول والحفظ والترديد والتذكر ، أما ما يرفضه المجتمع فإن الأبواب توصد دونه ، وإن فرض نفسه بعض الأوقات تمت إزالته من الذاكرة لعدم مناسبته فيما بعد ، فالبقاء في وعاء الحفظ للأسلم وللأنقى ، وقديما قالوا البقاء للأصلح ، وعليه فإن في القصائد ما يتم رفضه بالكلية لأنه ليس الأصلح ، وبعضها يتم رفض أبيات محددة من القصيدة فتروى فراغات يتورع الراوي عنها لعدم مناسبتها اجتماعياً ، وهذا يحصل كثيرا في هذا الميدان سواء الفصيح أو النبطي ، ذلك لأن الشاعر في حالة انفعال لم يهتم كثيرا بما يقول ، واتخذ قراره منفردا في التعبير وبث إحساسه ، وكثيرا ما يقصر العقل بضعفه وعجز صاحبه عن التمييز ، هناك شعراء لهم شهرتهم التاريخية وجرأتهم وإنتاجهم وقوة شعرية وحنكتهم أيضا ورجاحة عقول بحسب ما وصلنا من إنتاج ، سواء بالنبطي الشعبي أو الفصيح لكنهم سقطوا في بعض الأبيات فتجاوزوا إلى المنطقة الممنوعة ، ربما لأنهم في وقت قول الشعر نسوا أو غرتهم الجماهير باستقبالها في لحظة ضعف منهم فقالوا شعراً يعد تعدياً على الآخرين ، سواء على أشخاص بعينهم أو قبيلة أو بلدة ولا أريد أن اسمي أحدا من أولئك الشعراء لأنهم كثر وليسوا شاعراً واحداً ، فما أن تبحث في شعر بعض الشعراء حتى تجد سقطة في بيت أو أكثر ، وهذا لا يسجل للشاعر بل هو ضده دنيا وآخرة . وإذا كان يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره من حيث اللغة وتحسين الوزن والقافية والبيان والبلاغة فلا يحاسب بدقة على بعض العلل باعتبار الضرورة الشعرية فرضت نفسها ، فإنه في الناحية الشرعية لا يجوز له إلا الصواب فقط وليس غيره وكل ميل أو انحراف عن المقبول يكون في كفة الخسران . وإذا كان عصر الشاعر وما فيه من ثقافة ومؤثرات اجتماعية ، له تأثيرها أيضا في بعض شعره لكن هذا لا يشفع له أمام العقول النيرة ، وبالتالي عليه أن يستنير ويقول شعراً نظيفا يدوم أكثر ويبقى كالجوهر .