كلمة : جزل وجزالة هي أعلى وسام يعلق على صدر القصيدة خاصة ، وعلى كل قول أو عمل ينال إعجابنا ، هي كلمة نمنحها للقائل عن قناعة وربما عن مجاملة وربما أحيان كثيرة لأننا لا نجيد سواها . إنها كلمة تحمل معنى كما أنها تحمل صفة وتجسد رأي القائل ورضاه وإعجابه سواء كان متلقياً أو ناقداً ، وذلك باعتبارها ذات دلالة واضحة و مستخدمة و معروفة بيننا وإن كانت هذه الدلالة واسعة فضفاضة شاملة ومتنوعة إلا أنها تشكل مفهوماً ثابتاً سواء عرفناه من بيئتنا بحكم الاستخدام أو محفوظا في قواميس اللغة . لكننا ومع الكم الهائل من الشعراء والثراء الأدبي والكم الشعري توسعنا في إطلاق هذا المصطلح ووهبناه لمن نريد ولمن نجامل ولمن يريد أيضا وفي نطاق ضيق يمنح لمن يستحق. أما دلالة الكلمة وأعني جزل أو الجزالة فإنها ومن خلال ما تضمنته معجم اللغة ومنها : القاموس المحيط و المعجم الوسيط تعني : الشيء الغليظ العظيم ، والكثير من الشيء ، وتعني الكريم المعطاء ، والعاقل الأصيل الرأي ، وللمؤنث جزلة ، والجزل خلاف الركيك من الألفاظ ، والجزل أيضا الكثير ما عظم من الحطب ويبس ، ومن الكلام : القوي الفصيح الجامع ، وأجزله : أجزل له العطاء و أوسع وأكثر ، وجزُل اللفظ استحكمت قوته ، وجانب الرقة ، ويقال جزل له من ماله جزلة أعطاه منه قطعة ، ، وجزله بالسيف يجزله قطعه جزلتين ، وزمن الجزال صرام النخيل ، انتهى. إذاً فالكلمة وسام مهم ونفيس وشهادة عندما نطلقها تعني أشياء كثيرة قد تجتمع كلها في بناء ونسيج ومنتج أدبي يتميز في كل شيء ، كماً وكيفاً ، خاصة وأن الكلمة هذه تحدد اللغة خصائصها كمنتج عددي كمي ، وأيضا منتج نوعي ، ومن هنا تبدأ الصعوبة إذ يقل تواجدهما واشتراكهما في منتج واحد ، ولكن يمكننا أن نقتصر أحيانا على الكم ، ومرات على الكيف . إن الكم و الكثرة العددية شرط في بعض الأحيان ، ولكن جودة المنتج أساس لابد أن تكون فيه ، إنما تبرز مشكلة أخرى وهي تدخل عاطفتنا أو عدم حياديتنا وذاتيتنا فنجعل رضانا عن المنتج أو إعجابنا به شرط مضاف ضمن المعايير ، بغض النظر عن ثقافتنا حيال معنى الجزل والجزالة وغيرها. أشياء كثيرة إذا لا بد من توفرها وأخرى لابد أن نتخلص منها حتى نطلق كلمة : جزل على هذا المخرج النهائي ولكننا نختصر الطريق كله نحوها . وقد تغيب عنا كلمة : جزل ، أو نتركها عمدا عندما نظن بأنها استهلكت في مجالها أو غير مجالها ، فنعبر بكلمات أخرى مثل فخم وفخامة أو قوة وشعر قوي وشعراء فطاحل ، وربما نلجأ لمصطلح آخر يطلق على الشاعر نفسه كالفحولة ، فنقول : هذا شاعر فحل ، مع أنها توحي لنا هذه الكلمة الأخيرة بمعنى آخر مختلف عن ميدان الشعر فالفحل ذكر الإبل والنخل . إننا لا ندري عن هذا الكم من المصطلحات أهي تعني المنتج النوعي أم صفة للشاعر نفسه بناء على خبرته أو طول نفسه في مد القصيدة أبياتا متتابعة أو لأنه شاعر كبير بكل ما تعنيه الكلمة في مجاله ، مع أن مصطلح فحولة والكلمة لا يستحقها الشاعر إلا عندما يبدع بالكم والعجيب فيها أنها لا تتجانس مع الإبداع في ظاهرها ومعناها . لقد ناسبت وفق ما ألفناها أن تقال لكل شاعر له وزنه الأدبي وقدرته على تقديم منتج متميز ، لا فحولته الجسدية ، ونحن نتأرجح معها بين كونها منتجاً عددياً و كمياً أو نوعياً ونحدد ذلك وفق ما نريد. ولكنها عند البعض تمييز للشاعر المتمكن المبدع بمعانيه وألفاظه وجودة قصيدته وفخامة لفظه وبعده عن الركاكة في أسلوبه . حتى ولو لم يوضع معيار دقيق عندما يطلق هذا اللقب أو ذاك . ونتساءل في غياب المعيار الدقيق الذي يفرض الالتزام به وحضوره دوما أمامنا : ما معنى بيت جزل ، وقصيدة جزلة ، وشاعر فحل وشعراء فطاحل وفحول ؟ ورغم أن لها ضابطا لغوياً يقبع في أحد القواميس إلا أننا نختلف حولها حتى ولو لم نكن نقادا ولا شعراء ، ونتفق أيضا على أهميتها حتى ولو لم نكن كذلك نقادا ولا شعراء . ما هي هذه الجزالة التي نريدها ونهتم بها وفي الوقت نفسه لا نريد أن نعرفها على حقيقتها بل ونطلقها ونهبها لكل أحد بالمجان ؟!! . إن تحديدها يعتبر حداً لجزالة القصيدة وقولبة لها وللشاعر فالجزالة لا حدود لها كما هو التميز إنه بلا حدود وفي الوقت نفسه لابد من معيار يضبط ما نقول. نحن وخاصة في الآونة الأخير لا نشغل أنفسنا بمصطلحات يمكن أن نطلقها من أنفسها كيفما شئنا ولن يلتفت العديد من المتلقين لما نقول ، لأسباب عدة أهم هذه الأسباب أن الكم ممن نطلق عليهم هذه المصطلحات كبير وقصائدهم لا تعد لكثرتها وبالتالي ماالذي نلتفت إليه وماالذي نتركه ، وهناك من يتساءل فيقول : وما يضير أن نوزع الألقاب ، إنها بالمجان فهل ينقصنا شيء ؟ ، أليست للتشجيع ودون مقابل ؟ وأيضا لها أثرها الإيجابي في زرع الابتسامات وهذا يكفينا . أيضا لا ننسى إحساس المتلقي واستجابته وهي استجابة لا يمكن تساويها بين جميع المتلقين بل إنها تختلف بلا شك ، ففي الوقت الذي لا تروق لي القصيدة ولا مفرداتها ولا مضامينها و لا معانيها وقد أراها تقليدية الطرح خالية من الصور الفنية والجماليات ، إلا أنها تروق لآخر وتلامس كل أحاسيسه ويراها فريدة من نوعها وتناولها من زاوية التأثير المباشر أو غير المباشر وذلك لاتحاد ظروفه مع ظروف قائلها فهي عندي عادية ، وهي عنده جزلة . يضاف إلى ذلك أن القصيدة يختلف تأثيرها في المتلقي بحسب الزمان والمكان والانفعالات والاستعداد لتقبلها . لكن لعلنا نتفق على أن الشعر الركيك هو ما ضعف سبكه وأسلوبه ولم يختر الشاعر مفردات مناسبة واكتفى بلغة الشارع وضعيفها ، وزج بمضامينه فيما لا يهم المتلقي ، ولم يضف شيئا يفيد ولم يحرك في النفوس أحاسيس تنفع المحزون ولم يثر عواطف وشجون ولم يرتق بالكلمة حتى يكون لها الأثر الإيجابي والتغيير ونخلص من هذا كله أن الجزالة و الجزل مصطلح يمكن أن يطلقه على الشيء الكثير ( الكم والعدد ) ، ونسمع عن أجزل له العطاء إذا أعطاه الوالي أو الكريم عطاءً فوق المتوقع ، كما نطلق الكلمة على قطعة الشيء الكبيرة ، فنقول : اقطع له وأجزل في ذلك ، ونعني أن يعطى قطعة كبيرة من حطب أو لحم أو قماش أو طعام. كما نقول عن صفة الشخص الكريم إنه شخص جزل ونعني بذلك أن يده تجود بالكثير وتترفع عن القليل ، فانتقلت الصفة من عطائه إلى ذاته. وما يمكن أن يميل إليه الرأي حول كل ذلك من مصطلح الجزالة أنه غزارة النبع والمعين أو القريحة التي ينهل منها الشاعر معانيه ومفرداته فلا يعجزه الاختيار ولا يقف عند مجموعة من المفردات محدودة ولا يردد قوافيه ولا يكررها وبهذا يتوافق حكمنا مع معاني الجزالة باعتبارها المنتج الذي يدور على العدد والكم و على النوع بالذات ، مع أننا نريد النوع في كل أحوالنا وليس الشعر فقط ، نريده بالدرجة الأولى بغض النظر عن الكم ، و المصطلح يسعفنا و يطاوعنا في هذا لكن للأسف تتدخل عواطفنا أحيانا فنحكم الميل الذاتي فيما يعجبنا أو لا يعجبنا بلا معيار . وبلا أدنى شك فإننا عندما نصف شعر الشاعر راشد الخلاوي بالجزالة فإننا نجد شعراً يسمح لنا وبكل اطمئنان أن نطلق عليه شعر جزل ويشرفنا حكمنا عليه لأنه يحتوي كل صفات ومعاني اللفظة تلك ، سواء من حيث الكم أو الكيف والنوع ولا يمكن أن يعترض على هذا عارف بالشعر الشعبي . ولكن المصطلح نفسه يسمح أيضا بأن نطلق الجزالة على قصيدة طويلة من أي شاعر يعرضها متفكها بها على وضع اجتماعي أو يعبر بها عن حالة معاصرة أو عن ذاته حتى ولو لم تكن القصيدة ذات معانٍ ومضامين متميزة . لأننا في حكمنا على قصائد الشاعر راشد الخلاوي نريد بالجزالة الكم والكيف ، أو العدد والنوع ، بينما نريد في القصيدة الطويلة الأخرى التي ينتجها غيره : الكم فقط ، والمصلح لا يمانع في ذلك بغض النظر عن الجوانب البلاغية والإبداع والصور الفنية والمضامين . ولعل الجزالة كلمة قابلة لأن ترضي جميع الأطراف وهي مطاطة خاصة في عصرنا الحاضر ، ويسعد بها من ينال شرفها ، كما أنها توهب بالمجان خاصة في وقتنا الحاضر ، وبهذا تكون أداة تشجيع سهل منحها وكذلك الحصول عليها ، بعكس العصر السابق حيث لا يمكن أن ينالها إلا كبار الشعراء بعد عطاء متميز بالفعل .