مازلتُ أذكر جيداً، تلك الصدمة الكبرى التي أدهشتني بمجرد أن وقع نظري على ذلك الكتاب الخالد "الخالدون المائة". كنت وقتها في العشرين من عمري، وتجتاح عقلي الطري الكثير من الاسئلة التي لا أجد لها إجابات شافية. لماذا يكرهنا الغرب؟ ولماذا تتآمر علينا الدوائر والمراكز الغربية؟ ولماذا ينظر لنا الغرب بهذا الازدراء والاحتقار؟ ولماذ صورتنا العربية مشوهة وظلامية عند الغرب؟ ولماذا نُعتبر كعرب، مجرد شعوب متخلفة تعيش خارج إطار الزمن، وتقبع على هامش التاريخ؟ الكتابة عن صورتنا المشوهة في الذهنية الغربية، بل وفي ذهنيتنا نحن أيضاً، تحتاج إلى الكثير من المقالات والدراسات والأبحاث. فها نحن، بعد أن كنا الامة الاكثر تأثيراً وتنويراً بين الأمم نعيش الآن عالة على الشرق والغرب. هذه الاسئلة والكثير غيرها، بالنسبة لي - وأظنها لغيري كذلك - كانت بمثابة الخط الفاصل بين الحضارة الغربية الحديثة بكل ما انتجته وأنجزته وقدمته للبشرية، وبين عالم عربي لم يجد له حتى الآن موقعاً لائقاً يتناسب مع تاريخه المجيد وحضارته العظيمة. "الخالدون المائة"، كتاب أدهشني بل استفزني. ما هذا؟ نبي الاسلام محمد عليه افضل الصلاة والسلام يحتل المرتبة الاولى في تلك القائمة الذهبية التي انتقاها ذلك المؤلف الغربي اليهودي! هكذا كان لسان حالي، بل حال كل من تصفح ذلك الكتاب الرائع. وقد نُشر كتاب "الخالدون المائة"، أو "The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History" في طبعته الاولي عام 1978م، وترجمه للعربية الاديب المصري الشهير انيس منصور عام 1981م. وهو للفيزيائي الامريكي "مايكل هارت"، وهو عالم متخصص في الفيزياء والرياضيات، ولكنه اشتهر بشغفه وولعه بدراسة التاريخ، وذاع صيته بسبب هذا الكتاب الرائع. فمن بين 20 الف شخصية مهمة في تاريخ البشرية، اختار المؤلف 100 شخصية فقط، وجدها الاهم مكانة والأكثر تأثيراً في المسيرة البشرية. وقد رتبها حسب اهميتها وتأثيرها، واتبع اسساً محددة، ووضع شروطاً معينة لاختيار هذه الشخصيات حسب الترتيب الذي جاءت به هذه القائمة. وقد ولد "مايكل هارت" في مدينة نيويوركالامريكية عام 1932م، ونشأ في عائلته اليهودية، وحصل على الدكتوراه من جامعة "تيرنتي" متخصصاً في الفيزياء الفلكية. أما عن سبب اختياره للنبي محمد عليه افضل الصلاة والسلام في أول القائمة، فيذكر ذلك في أول كلامه عن "محمد" عليه السلام: “لقد اخترت محمداً (صلى الله عليه وسل) في أول هذه القائمة ولابدّ أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حقٌّ في ذلك، ولكنّ "محمداً" هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي، وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحدٍ من أعظم الديانات وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وبعد 13 قرناً من وفاته فإنّ أثر محمد عليه الصلاة والسلام لايزال قوياً متجدداً". اإذاً، لماذا أصبحت صورتنا باهتة ونمطية في الذهنية الغربية؟ ولماذا لم تستطع كل تلك المسيرة الطويلة والحافلة بالانجازات والمخترعات والخدمات التي قدمها العالم العربي خلال قرون طويلة أن تشفع لنا وتمسح عنا هذه الصورة الغربية المشوهة؟ أعرف بأن البعض لديه إجابة جاهزة يستدعيها دائماً، إنها المؤامرة الغربية التي لن يهدأ لها بال أو ينام لها جفن، حتى تقضي على "الحضارة العربية"، وتدمر كل القيم والمثل والمبادئ العربية والإسلامية. أعرف ذلك جيداً، وهي على كل حال عادة عربية أثيرة توارثتها العقلية العربية جيلاً بعد جيل. فما اسهل أن تعلق اخطاءك على "شماعة" الغير، وهل هناك أفضل من ذلك الغرب الامبريالي المتصهين المتفسخ! أمامي الكثير من الامثلة والأحداث والمناسبات التي قد تُجيب عن تلك الأسئلة ولكنني سألتقط اربعة منها فقط.. أولها، احداث 11 سبتمبر 2001م، وهي عبارة عن مجموعة من الهجمات الارهابية التي شهدتها امريكا، حيث تم تحويل مسار اربع طائرات مدنية لتصطدم بأهداف معينة. وقد سقط نتيجة ذلك العمل الارهابي قرابة ال 3 آلاف قتيل، غير آلاف الجرحى والمصابين. المثال الثاني، هو تفجيرات مدريد في 11 مارس 2004م، حيث تعرضت محطة قطارات "اتوشا رينفي" بمدريد لسلسة من التفجيرات الارهابية المتزامنة التي استهدفت شبكة قطارات لنقل الركاب المدنيين، حيث راح ضحية تلك التفجيرات الارهابية 191 شخصاً، وجرح 1755 آخرين. أما المثال الثالث، فهو ما حدث للمخرج الهولندي "ثيو فان جوخ"، حفيد شقيق الرسام الهولندي الشهير فان جوخ، وذلك بسبب إخراجه لفيلم "الخضوع"، وهو فيلم قصير لا يتجاوز ال 12 دقيقة . وقد تم اغتياله في 2 نوفمبر 2004م بطريقة بشعة، حيث اطلق عليه محمد بويري، وهو هولندي من اصل مغربي، 8 رصاصات وقطع رقبته وطعنه في صدره، وقام بتثبيت بيان من 5 صفحات على صدر الضحية بواسطة السكين التي طعنه بها. المثال الرابع، وهو الأحدث، فهو مقتل السفير الامريكي في ليبيا "جي كريستوفر ستيفنز" مع ثلاثة امريكيين في الهجوم الذي تعرضت له القنصلية الامريكية في بنغازي، ونفذه مسلحون احتجاجاً على الفيلم المسيء لنبي الرحمة محمد عليه افضل الصلاة والسلام. الكتابة عن صورتنا المشوهة في الذهنية الغربية، بل وفي ذهنيتنا نحن أيضاً، تحتاج إلى الكثير من المقالات والدراسات والأبحاث. فها نحن، بعد أن كنا الامة الاكثر تأثيراً وتنويراً بين الأمم نعيش الآن عالة على الشرق والغرب. بكل صراحة، المشكلة في أصل الصورة، لا في نظرة الغير لها. أما الاجابة عن السؤال أعلاه من شوّه صورتنا؟ فبكل أسف، نحن من فعل ذلك.