أسهل وسائل التعبير عن المواطنة هي التغني بالوطن، وكتابة القصائد في عشقه وعشق ترابه، لكن أصدقها بالتأكيد هو أن تفعل شيئاً من أجله دون أن تنتظر مكافأة أو حتى إشادة من أحد.. كثيرون من شبابنا يتلفعون باللون الأخضر متى حقق المنتخب الوطني نصراً هنا أو هناك، وينظمون المسيرات التي قد تبلغ حدّ الصخب أحياناً، وكل هذا باسم حب الوطن، والفرح لانتصاراته..حسناً، هذا شعور طيب طالما تمّ في إطار التعبير عن الفرح دون الإخلال بالنظام العام أو مضايقة الآخرين، لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح؛ هل هذا المدى الذي يُجيده جيل اليوم للتعبير عن حب الوطن؟، أم أنه مجرد عمل تنفيسي لاستغلال هذه الفرحة في تفريغ الطاقات المخزنة؟، حيث لم نُحسن نحن تفريغها بما ينفع، وبما يقود إلى تكريس قيمة المواطنة كفعل نابغ، ثم هل هو تعبير فعلي عن الانتصار كقيمة وطنية صادر عن غيرة وطنية نابعة من الوجدان؟، أم أنّه تعبير عن التشفي بالمهزوم أو اقتصاص منه على سابقة انتصار؟. الوطن ليس فندقاً فاخراً نسكنه ولا محطة خدمات نتزود منها بالوقود وإنما هو ب«فقره وغناه» قطعة من الروح تسويق المشاعر الوطنية وحتى لا نسيء الظن بشبابنا فإننا سنعتبر أن ما يحدث في الجانب الرياضي تحديداً من أساليب التعبير عن حب الوطن، إنما هو بسبب الجماهيرية التي تحظى بها هذه النشاطات في أوساط الشباب، ثم وقوعها تحت دائرة أضواء الإعلام.. لكننا إن قبلنا بهذا التبرير فإننا في الجانب الآخر سنكتشف حجم تقصيرنا، و"ناء" الفاعلين هذه تعود على مؤسساتنا التربوية، وعلى التربية الأسرية، والإعلام وأندية الثقافة، وكل المؤسسات الفاعلة في المجتمع فيما يتصل بتسويق تلك المشاعر الوطنية إلى جوانب أخرى غير الرياضة؛ كالمنجز العلمي والاقتصادي والثقافي والتنموي وغيرها من المجالات، لنرى هل نجحنا فعلاً في غرس مشاعر الوطنية في أجيالنا مثلما ينبغي، أم لا؟. المشاركة في المعارض والمناسبات الخارجية تعكس حجم المسؤولية الاجتماعية والوطنية ضابط ذاتي ولأنّ الوطنية تقتضي طرح مثل هذا الموضوع بأقصى ما يمكن من درجات الشفافية، في محاولة لتشخيص الواقع، وبالتالي البحث عن الحلول، فإنّ أول ما يلزم أن نقرأ بعض تلك التجاوزات التي تتم على هامش احتفاليات الفرح الكروي -نتحدث عن المنتخب تحديداً-، والذي يفترض أن يُذيب التعصبات للأندية باعتبارها شأناً آخر، وهنا سنكتشف أننا أمام تصرفات مضادة تماماً للروح الوطنية التي يُفترض أنّها خرجت من أجل تحيتها؛ مما يُؤكد على أننا بما قدمناه حتى الآن من أجل بناء الروح الوطنية في أجيالنا، وبما في ذلك إقرار مادة للتربية الوطنية في مناهج التعليم العام؛ لا زلنا دون ما نصبو إليه فيما يتعلق بغرس روح المواطنة في أبنائنا بما يحوّل تلك المشاعر التي يكثر التعبير عنها سواء في القصائد أو الاحتفالات إلى سلوك وطني يستطيع المرء أن يلمسه وأن يراه بأم عينه، ويستطيع بالنتيجة أن يضبط أي تجاوز شاذ يُرافق مثل تلك المناسبات إن حدث من البعض ويُعيده إلى رشده، بحيث لا يكون الضابط محصوراً على المؤسسات الأمنية، وإنما ينبع قبلها من الجمهور نفسه. التعبير عن حب الوطن يعكس حجم الولاء لقيادته دافع إنساني أو وطني! صحيح أنّ ما حدث -كمثال أيضاً- على هامش "كارثة سيول جدة"، وتطوع المئات من الشباب في الأعمال الإنقاذية والإغاثية عمل مدهش، وقد يُقدّم للبعض صورة مغايرة عمّا أشرنا إليه قبل قليل عند من سيصنفونه بأنّه عمل وطني، وهو بالفعل كذلك في بعض وجوهه، لكنّه ليس كذلك تماما في مجمله؛ لأنّه عمل إنساني بالدرجة الأولى، ولا يُمكن التسليم كليةً بقياس حجم المواطنة من خلاله، إذ قد يشارك فيه المواطن والمقيم على حد سواء خاصة في مثل تلك الظروف الطارئة التي تحرك الوجدان الإنساني، وتدفعه لتقديم كل ما بوسعه لإنقاذ الآخرين أو إغاثتهم، لذلك لا يُمكن البناء عليه كسلوك وطني قادر على ترجمة ما بلغناه في بناء الروح الوطنية؛ وبدليل أنّ أبرز من ساهم في ذلك العمل كان رجلاً "باكستانياً" دفع حياته ثمناً لشعوره وحسه الإنساني، وهذا لا يقلل أبداً من قيمة ما قدمه شبابنا في تلك الواقعة من أعمال جليلة تستحق التحية والاحترام، إذاً لابد من أن نفتش عن مكان آخر لقياس ما أنجزناه في هذا الصدد. مظاهر الاحتفال بالوطن يجب أن لا تتجاوز النظام الدولة غنية! وما نلاحظه عند قياس حجم النقد على أهميته، بحجم ما يبذل من الأعمال والأفعال التطوعية، هو رجحان كفة النقد بشكل مريع على حساب المبادرات التطوعية، أو المساهمة في أي فعل يخدم الصالح العام مهما قلّ شأنه؛ مما يُشير إلى تسليع الشعور بالمواطنة عند البعض، واستثماره لبناء المجد الشخصي، وحينما نتقصى أسباب هذا الشعور.. نجد من يجيب بلا تحفظ: "يا أخي الدولة غنية!"، وهذه كلمة حق أريد بها باطل للأسف، نعم، الدولة غنية هذه حقيقة، لكن هل غنى الدولة يدعو إلى اعتبارها مجرد حافظة نقود لتأتي إلينا بمن يؤدي أدوارنا مهما كانت تافهة؟، وهل غنى الدولة يلغي شعورنا بالمواطنة والغيرة الوطنية؟، بالتأكيد الدولة معنية ومسؤولة عن تقديم الكثير من الخدمات، لكنّها حتماً ومهما بلغ غناها لن تستطيع أن تعوض فقدان جانب الحس الوطني الذي يستشعر واجباته المتممة لتلك الخدمات، والمعنية بالمحافظة عليها لتستمر بالقوة والكفاءة نفسها، وهذا دور لا يمكن أن تتمه النقود مهما بلغت أرقامها، ثم إننا إذا ما سلمنا بهذا الأمر، وخاصة في وطن يعتمد بشكل كبير على الاقتصاد الريعي، وعلى ثروات ناضبة أو قابلة للنضوب في أي وقت، هل سنحزم حقائبنا بعد أن تنضب تلك الثروات ونبحث عن مكان آخر؟، بصيغة أخرى هل يوجد على سطح هذا الكوكب بديل للوطن؟. ترسيخ مفهوم المواطنة لدى الأطفال مطلب ضروري تسعير المواطنة الوطن ليس فندقاً فاخراً نسكنه، ولا محطة خدمات نتزود منها بالوقود لنمضي إلى حال سبيلنا، وإنما هو بفقره وغناه بالنسبة لأي إنسان على وجه هذه الأرض قطعة من الروح، تسكننا ونسكنها، نغرس فيه مطامحنا وتطلعاتنا، وليس بالضرورة أن نأكل كل ما نغرسه، وإنما نبنيه لنا ولأجيالنا لتأكل مما نغرس، وتتواتر هي الأخرى الدور نفسه إلى أن يرث الله ومن عليها، إنّ تسعير المواطنة، وتحويلها من قيمة روحية ترتبط بأهمّ العواطف، إلى مادة خاضعة لمنطق حسابات الربح والخسارة، أو على الأقل تحويلها إلى حالة لا مبالاة، لن يفضي إلاّ إلى إنتاج حضارة مادية في حال الرخاء المادي، قد تتزين بالبنايات الضخمة والطرقات وغيرها، لكنّها لن تصنع وطناً قادراً على أن يكون بمنأى عن المطامع، وقادراً على تجاوز ذاته ليصنع تراكميات حضارته، لذلك لابد من إعادة صياغة عملنا فيما يتصل بالطرق الكفيلة بغرس مفهوم المواطنة في نفوس الأجيال؛ بما يجعلها سلوكاً وليس مجرد شعور، وعملاً طوعياً بالدرجة الأولى قبل أن يكون عملاً مأجوراً، وهذا لن يتأتى ما لم نبادر بوعي إلى اجتراح الصيغ التي تحد أولاً من طغيان المفهوم المادي للمواطنة، لتعود إلى مسربها الحقيقي كقيمة هي أغلى من كل الأثمان مهما بلغت؛ بحيث يرتفع منسوب إنتاج ما يُسمى بالقطاع الثالث أو العمل الطوعي، كما يحدث في كل الدول المتقدمة، بما يوازي إنتاج منسوب العمل المأجور، وبترقية قيمة المسؤولية الاجتماعية والوطنية عبر برامج مدروسة تحتفي بتقديم القدوة وترفعها إلى مكانتها التي تستحقها؛ لتحتل مكانتها في نفوس الأجيال وتتشربها جيلاً بعد جيل، وهذه القضية لا تتوافر على "كتالوج" أو دليل تشغيل يمكن جلبه من أحد المتاجر والعمل على هُداه، وإنما تحتاج إلى استنفار كل الطاقات والكفاءات الوطنية للانخراط في بناء منهج يستثمر في بناء المواطنة بالشكل الذي يستحق هذا الوطن، وهو أجمل استثمار يمكن أن نرده للوطن في كل حين، ونستشعره عاماً بعد عام في يوم مجده.