اجتهد مفكرون ومثقفون خليجيون في معالجة معضلة «التنوع المذهبي» في بلادهم، التي شهدت توترات عدة، حملت الطابع الطائفي، بعد عقود شابها تعايش وتنافر. ساد ما يشبه التواطؤ بين المهتمين في تفريق المسؤولية عنه بين أطراف العلاقة، من جماهير وحكومات ورجال دين. وما خرجت المناسبة التي نظمها «منتدى العلاقات العربية والدولية» في الدوحة، بأفضل من جمع الأضداد على منبر واحد، فأسمع كل منهما الآخر، ما لا يرغب بسماعه! فيما حاول المستقلون (إن كان في مسألة الطائفية مستقلون)، الخروج بوصف واقعي، لا يداهن أو يعادي، في مصارحة ب «الواقع» اعتبرها مدير المنتدى محمد الأحمري، الخطوة الأولى قبل الأمنيات، في تفادي السلبية الطائفية. وحذر من التركيز على عامل واحد لتفسير مشكلة متعددة الأسباب، منتقداً جنوح مثقفين إلى السلبية، بدعوى أن حل إشكال الطائفية ليس بأيديهم، فيما يرى هو أن الحل مسؤولية تتقاسمها المكونات أجمعها، مثقفين وحكاماً وجماهير. ومع أن ندوات الملتقى، أتت على معظم إشكالات القضية المذهبية في الخليج، ومثلت كل الأطياف، إلا أن سخونة الأحداث في البحرين، جعلت من محور التعايش في الجزيرة الحساسة، أكثر الموضوعات إثارة للجدل بين الفرقاء، واستقطاباً لاهتمام المتابعين. ورأى رئيس تجمع الوحدة الوطنية في البحرين (السني) عبد اللطيف المحمود أن «الطائفية يتم استغلالها لأهداف سياسية (...) الربيع العربي فتح شهية الشيعة عندنا، فهم أرادوا اختصاره في ربيع شيعي». فيما عرضت الإعلامية البحرينية سوسن الشاعر (سنية) تجربتها الشخصية في أحداث شباط (فبراير) في البحرين، وقالت: «كنا على وشك أن نكون السيناريو العراقي الثاني»، منتقدة ولاء الشيعة «العابر للقارات»، بحسب تعبيرها، في إشارة إلى ارتباطهم بإيران. ولم يذهب البرلماني الكويتي وليد الطبطبائي بعيداً عنهما، إذ رأى أن السنة «يعيشون قصة حب من طرف واحد مع الشيعة (...) فكلما أصبح الشيعة غالبية ساموا السنة الويل والعذاب»، بحسب زعمه، الذي استشهد له بحالتي إيران والعراق بعد الرئيس صدام حسين. في المقابل لم تكن الأطراف الشيعية في البحرين، أقل حماسة، إذ وصف الأمين العام لجمعية الوفاق البحرينية (شيعية)، الشيخ علي سلمان، تلك القراءات بأنها «غير موفقة»، مؤكداً أن «هناك ربيعاً عربياً يجتاح كل المنطقة العربية يضم كل المذاهب والأطياف وحتى الأمازيغ»، معتبراً أن «الحديث عن الشيعة في هذا السياق العربي العام سيكون هامشياً». بينما يعتقد المفكر السعودي (شيعي) توفيق السيف، أن التعاطي مع المسألة الطائفية في بلاده يعاني خللاً، يمكن حله. وجاءت ورقته في سياق تجاوز ما اعتبره فشلاً على هذا الصعيد، واختصر طبيعة الحراك الشيعي في هذا المسار «بمطالب سياسية بين الشيعة كمجتمع وبين الدولة (...) أما الخلافات العقيدية والفقهية فإنها لا تمثل تحدياً جدياً أو تهديداً داهماً. ولعل الانشغال بها ناتج من غياب الإطارات المفتوحة والقانونية للجدل السياسي الصريح». وفي جلسات الملتقى التي تناولت أوجه التباعد والتقارب بين الطائفتين السنية والشيعية في دول الخليج، حاول المستقلون البحث عن الحلول، غير المصطبغة بلون المذهب والطائفية، فرأى الكاتب السعودي جميل الذيابي أن من المهم تجاوز الشعوب والمثقفين لرجال الدين والسياسة، والعمل على «التخلص من أثقال الطائفية والمذهبية والعصبية، والمشاركة الوطنية الإيجابية، والابتعاد عن توظيف التنوع لأية أغراض سياسية»، أثناء التعاطي مع القضايا الطائفية والمذهبية، وذلك خوفاً من «انفجار صراع بين الطوائف يضعف الولاء والانتماء للوطن» بحسب قوله. لكن الذيابي مع هذا لا يتردد في الجزم بأن «جوهر المشكلة الطائفية سياسي، وكل من يعتقد خلاف ذلك فهو مخطئ (...) إلا أن التعددية ميزة يجب التعايش معها والاحتفاء بها في دول الخليج العربي، ويمكن معالجة الاختلاف من خلال الدفع بالعمل السياسي والفكري والاجتماعي والقانوني نحو تعزيز قيمة المواطنة ببناء دول المؤسسات والقانون، والبعد عن ما يثير الفرقة وما يجلب الفتنة». ولا يذهب الباحث الكويتي حاكم المطيري بعيداً عن هذا التحليل، على رغم خلفيته الإسلامية، إذ أكد أن التغيرات التي يشهدها العالم العربي بأجمعه، تجعل النخب والجماهير «أحوج ما تكون لفهم ظاهرة التنوع (في الخليج) على أنها ظاهرة إيجابية طبيعية يجب استثمارها لصالح الإنسان والمجتمع، لا ظاهرة سلبية يتم توظيفها للأغراض السياسية لتعزيز الطغيان بأي شكل من أشكاله سواء الاجتماعي أو المذهبي». ومن هنا يرى المطيري لزوم «تعزيز المشتركات بين مكونات المجتمع والاحتفاء بها». وكان لافتاً أن المطيري الذي يدرك حجم المخزون التراثي الطائفي لدى السنة والشيعة معاً، يرى على رغم ذلك أنه بالعودة إلى المعاني الإسلامية الأشمل، نجد من بينها ما يعزز التعايش والتوافق مثل معاني «الأخوة الإيمانية، والتراحم، والإحسان، والعدل». وفضلاً عن تلك القواسم لا يجد المطيري مبررات كافية للتصادم بين الطوائف في المنطقة، بوصف الخليج بمجموعه الذي يناهز نحو 30 مليون نسمة كما يقول: «يعتبر أكثر المجتمعات الإنسانية تجانساً، إذ يكاد يكون كل مواطنيه عرباً ومسلمين، ويقتصر التنوع فيه على التنوع الاجتماعي والقبلي والمناطقي، أو التنوع المذهبي». وبالنظر إلى تلك المعاني وتوظيفها إعلامياً، أكد الإعلامي في قناة الجزيرة علي الظفيري في مداخلته أن الإعلام الاحترافي أحد أسس الدول الحديثة، وكان يفترض أن يكون جزءاً من حل المشكلة لا أن يكون جزءاً من المشكلة نفسها، مشيراً إلى افتقاد التغطية الموضوعية في القضايا الطائفية والتعددية في معظم وسائل الإعلام التي تابعت الأحداث في البحرين كنموذج. وشدد علي الظفيري على أن القضايا الطائفية والمذهبية حساسة جداً وتحتاج لمهنية وحيادية، لأن من مهام الصحافي استحضار كل الأطراف والآراء، لافتاً إلى أن التحريض الطائفي على المستوى الإعلامي خطير جداً لأنه يزيد الاحتقان. فيما يتقاطع معه الزميل الذيابي، الذي اعتبر أن الإعلام أوضح طموحات الشعب العربي بلغة واضحة، مؤكداً على أن جوهر المشكلة الطائفية سياسي، لافتاً في الوقت نفسه إلى وجود مداهنة بين رجال الدين ورجال السياسة. وشدد محمد الرميحي على أهمية تفادي المفاهيم الغامضة في التعامل مع واقع المنطقة وتحليلها والبعد عن الخطاب الوعظي، لأنها لن تحل المشكلة الطائفية، فمعالجتها تكمن بالأساس في الوعي أن المشكلة في جوهرها سياسية اتخذت مظهراً دينياً طائفياً. ودعا الرميحي لعدم الاستغلال السياسي للدين وتضخيم العاطفة في التحليل والعمل على نشر وعي اجتماعي، مشيراً إلى أن الدولة المدنية هي الحل. أما فهد العرابي الحارثي فأوضح أن الندوة ليست حلاً سحرياً لكنها تعين على تلمس الحلول لمشكلة الطائفية والتمكين لثقافة التعايش والتسامح وتجفيف منابع الصراع أو التقليل من حدتها. وقال العرابي إن لكل من الرجل السياسي ورجل الدين استراتيجية تلتقي في نهاية المطاف في تأجيج الصراع المذهبي أو إطفائه بحسب المصالح، مشيراً إلى أن الأمر يصبح مأسوياً عندما يكون رجل الدين أو المرجعية هو نفسه السياسي والمناضل فيتحول بحسب تعبيره إلى ملاعب للثعابين. ويبقى الملجأ برأيه في الديموقراطية والمحافظة على الصدقية وتحمل المسؤولية الاجتماعية والإنسانية بدعم ثقافة التعايش وبناء مجتمع صلب وعصي على التشظي المذهبي من خلال المطالبة بدولة المواطنة والقانون والحرية والعدالة والمساواة بين أتباع المذاهب. واعتبر المشرف على مشروع اللغة العربية في «جامعات العالم» خالد العجيمي أن التنوع المذهبي يصير مشكلة عندما يترك الأمر لمن وصفهم بالسفهاء والمتشددين داخل تلك المذاهب، موضحاً أن الحل يكمن في إشاعة الحوار ولا يكون المشروع الإصلاحي التنموي وطنياً وليس مذهبياً. ودعا العجيمي إلى إقامة مرصد للخروقات على المستوى السياسي والمذهبي تراقبه الجهات الأهلية. إلى ذلك قال الشيخ عبدالعزيز العوضي إن العنف يزيد المشكلة الطائفية ويذهب بها إلى حالة الانسداد، مشيراً إلى تجربة الصراعات والحروب الدينية التي عرفتها أوروبا، ومحذراً من اعتبار الدين أساس المشكلة الطائفية وتغييبه عن الفضاء العام، لأن الدين جزء من الحل وليس مشكلة. وزاد أن حل مشكلة الطائفية يكمن في تصحيح المفاهيم ومحاربة التصورات الخاطئة، وتكوين مفهوم المواطنة وعدم السماح للسياسي بالركوب على المذهب وتحريكه لتحقيق مصالحه، داعياً إلى التفريق بين الصراع الديني والصراع السياسي، وتفادي الاستفزاز الإعلامي، ومواجهة المتشددين داخل المذاهب، وتأسيس وعي بديل قائم على قيم المواطنة غير المنافقة بحسب تعبيره.