حينما رأيت الفيل أول مرة في حديقة الحيوان أصبت برعب وخوف ممزوجين بالعجب والاستغراب، لأنني لم أكن أتصور أن مخلوقاً يمشي على وجه الأرض بهذه الضخامة والكبر. وكنت أظن أن أكبر مخلوق على البسيطة هو أستاذنا «طه» فقد كان رجلاً طويلاً ضخماً، وعملاقاً، إذا دخل من الباب انحنى بنصف جسده وكأنه يدخل من نافذة، علماً بأن باب فصلنا من الأبواب الكبيرة لبيت عتيق يبدو أنه قد بُني قبل دخول إبراهيم باشا للدرعية.. وأصدقكم القول إنني كلما رأيت - حتى اليوم - صورة أو مجسماً لديناصور تذكرت ذلك الرجل العملاق أستاذنا «طه» .. كان إذا دخل علينا نهضنا كفراخ العصافير أمام نسر جبار.. فإذا أشار بيده جلسنا في صمت محدقين فيه وهو يكتب الدرس على السبورة، وكم كنا نجد عناءً بالغاً لنسخ ما يكتب لأنه يسد ببدنه الضخم معظم السبورة، فإذا أتم الكتابة جلس على كرسي الخيزران الذي يبدأ في الأنين والشكوى والتضجر بما يصدره من صرصرة وأزيز وأصوات متباينة، فإذا جلس بدأ يشرح الدرس وهو جالس مستعيناً بخيزرانة طويلة يحدد بها الكلمات والأسطر.. والحق أنه رغم خيزرانته إلا أنه لا يستعملها للضرب مطلقاً وكان يكتفي بتركيز نظرة من عينيه تجعل التلميذ يدخل حالة دوار خوفاً ورهبة.. وكان الخوف والرهبة يجعلاننا نحفظ ما يكتب عن ظهر قلب فيتحول الفصل في حالة التسميع إلى ببغاوات تتراطن بكلام تريده ولا تفهمه.. فإذا سمعنا صوت الصافرة تنفسنا الصعداء وبدأنا نستنشق الهواء بشكل طبيعي.. وهكذا كنا مع هذا الأستاذ البدين، الغريب، الذي يتحجر في حضرته كل شيء حتى الزمن إلا قلوبنا الواجفة، وأجسادنا التي تركبها قشعريرة الخوف والهلع.. كان أستاذنا يسكن في بيت مع أستاذ آخر في المدرسة، وكنا نراهما دائماً يسيران في الأسواق وفي الوادي بعد صلاة العصر، فإذا أقبلا هربنا ولذنا بأية زاوية، أو وراء أية شجرة، حتى إذا تواريا عدنا إلى ما كنا فيه.. ولسبب مجهول حتى اليوم اختلف الأستاذان فيما بينهما فقرر زميله ترك البيت والانتقال إلى مكان آخر.. وحاول الأستاذ الضخم ثنيه عن رأيه وبذل كل الحيل والمغريات ولكنه فشل، وهنا حلت الكارثة بالأستاذ الجبار.. كان أستاذنا الفخم الضخم، الذي يخاف الليل منه وتخاف منه كل الكائنات مصاباً فيما يبدو «بفوبيا» الخوف من الوحدة.. فهو لا يستطيع أن يجلس أو ينام في البيت وحده.. وعندما أقبل الليل خرج الأستاذ إلى الشوارع يدور ويبحث عن مخرج لخوفه وهلعه، وأخيراً ذهب إلى بيت فراش المدرسة وطلب إليه أن ينام عنده في البيت لأنه لا يستطيع النوم وحيداً، وذهل الفراش ولم يصدق أن هذا الداهية في بدنه له قلب أذل وأشد ذعراً من قلب عصفور.. وما أن طلعت الشمس على المدرسة حتى انتشر الخبر بين الأساتذة والطلاب، ولم يصدقوا النبأ في بداية الأمر، ولكن كثرة ضحك المدرسين وغمزاتهم، كشفت وأكدت كل شيء، وما أسرع ما تجرأ التلاميذ الصغار فأخذوا يتهامسون بينهم بخبث إذا أقبل.. وأحياناً يخرجون رؤوسهم من النوافذ وهم يتغامزون ويتضاحكون وربما يصفرون إذا مر ذلك الأستاذ الجبار.. وما أسرع ما تحول فصلنا فصل الببغاوات إلى فصل للشياطين والمردة، فتعالت الصيحات وكثر اللعب وأصبحنا كالعصافير في السدرة، كما يقال.. ولم نعد نحفظ، ولم نعد نكترث، وصرنا نخرج أحياناً من الدرس بلا إذن.. الشيء الوحيد الذي ظل تحت سيطرة الأستاذ هو ذلك الكرسي الذي يملأ المكان بالشكوى.. والأنين، والأزيز، والصرصرة..!!