لقد أدخلت موافقة خادم الحرمين الشريفين - حرسه الله - على تطوير مناهج معهد القضاء الفرح في وجدان كل مهتم بتطبيق العدالة التي هي جوهر شريعة الإسلام، إذ ان لبوث مناهج المعهد العالي دون تغيير منذ تأسيسه لخمسين عاماً خلت.. هو الذي أورث الحال التي عليها القضاء الآن، بل بسبب مناهجه أضحت محاكم الشرع مع الأسف وكأنها محاكم الاستثناء في بند الشرع بينما اللجان القضائية الإدارية هي التي تحكم في الغلبة الغالبة من القضايا، لقد كان للقصور الذي شاب مناهج المعهد.. أثر غير محمود على بعض القضاة الذين تخرجوا من المعهد.. إن هذه الديار محكومة بأحكام الشريعة، فهي الأساس، ونعني هنا القرآن والسنّة وما أجمع عليه الفقهاء في المذاهب الأربعة، إلا أن الذي لا يغرب عن الذهن هو أن الكثير من الآصار بين الناس وخصوصاً في أمور التجارة والإدارة وعلاقة الفرد بها.. تحكمها الأنظمة أي القوانين التي سنها ولي الأمر فقد حرم عليهم فيه دراسة الكثير من الأنظمة المطبقة، وهذا أفضى بدوره إلى عدم وجود قضاة متخصصين، الأمر الذي حال دون إنشاء المحاكم المتخصصة، رغم أني كنت أتمنى أن لا يكون هناك محاكم متخصصة.. بل دوائر متخصصة في كل محكمة شرعية.. أي ان المحكمة تشتمل على دوائر تجارية ومدنية وجنائية وعمالية.. وعلى أن تحتفظ المحكمة باسمها السابق (المحكمة الشرعية) لا المحكمة العامة.. لذا فإن تطوير مناهج معهد القضاء غدا أمراً له ضرورته، فهو يتغيا تأهيل القضاة على الوجه الصحيح، وذلك ليكونوا قادرين على التصدي بكفاءة لما يثار أمامهم من قضايا.. لكن الفرحة التي غشيتني كبَتْ حين قرأت تصريحاً للدكتور أبا الخيل مدير جامعة الإمام.. إذ قال: (إن المعهد يؤهل ويدرب القضاة من حيث البرامج العلمية في درجتي الماجستير والدكتوره).. وهذا كلام فيه إيهام فالدارس في الماجستير والدكتوراه يعهد إليه فقط بتحضير رسالة في موضوع معين يقدم فيه دراسة متعمقة، كما أن بعض الرسائل هي محض تحقيق لمخطوط.. لذا فإنه لن يحيط بالكثير من فروع القانون التي يلزمه دراستها، ولأن ما تغياه مشروع تطوير المناهج هو الرقي بتأهيل المتخرج كي يتصدى باقتدار لما يعرض إليه من قضايا، فإن هذا لا يكون إلا إذا أضحى المتخرج عالماً بأحكام الشريعة ونظرياتها في المعاملات والجنايات وعارفاً متمكناً من القوانين المطبقة في المملكة دارساً لشروحها ونظرياتها، كما أن قوله (أو غيرها من ورش العمل وحلقات النقاش والدورات التدريبية) هذا القول ينبهم على كل ذي حِجَى، فحلقات النقاش لا تؤهل ولا تدرب قضاة، ولعل ما بدر من فضيلته أماط الجفول من النفس للجهر بالقول إن أي قاض لا يعدُّ - شرعاً - مؤهلاً لتولي سلطة القضاء التي لها القول البتار في الأموال والرقاب... إذا لم يستطع - إلى جانب معرفته بأحكام العبادات وما ورد في القرآن والسنّة والمقاصد العامة للشريعة وأحكام الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقة... الخ، أقول.. لا يعد مؤهلاً إذا لم يدرس دراسة موسعة النظريات العامة لأحكام العقود والمسؤولية المدنية والجنائية، وهو ما يعرف بنظرية الالتزام في الشريعة والقانون المدني ونظرية الجريمة في الشريعة والقانون الجنائي، ونظريات القانون الإداري، وأصول المحاكمات المدنية والجنائية، كذلك يلزمه دراسة الأنظمة المطبقة التي أصدرها ولي الأمر، والتي تحكم - كما ذكرنا - الغلبة من الآصار القائمة بين الناس.. لماذا..؟ لأن الأنظمة والتي هي قوانين تعد من الشريعة باعتبارها أوامر أصدرها ولي الأمر لتنظيم مصالح الناس ولا تتعارض لا مع القرآن ولا مع السنّة، فالفقهاء نزعوا إلى أن أوامر الإمام التي بنيت على المصالح وتواءمت مع ما تغياه الشرع من مقاصد، تحدث حكماً شرعياً.. فهذا هو إمامنا.. الإمام العظيم ابن القيم.. يقول.. إن الشريعة أساسها الحكم والمصالح وهي عدل ورحمة ومصالح وحكم فكل ما دخل في هذا هو من الشريعة (أنظر: أعلام الموقعين لابن القيم الحنبلي: ج3 ص(114/ 120/ 121/ 122)، أزيد هنا وأقول إن أمر الإمام الذي بُني على المصالح ولم ينطو على معصية يحدث حكماً شرعياً ونهيه يورث حرمة شرعية، لأن الحكم - كما يذهب الفقهاء - لم يحدث في الحقيقة بأمره ونهيه، بل بأمر الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) - انظر: المدخل الفقهي الإسلامي للشيخ الزرقا ج1 ص68.. وبحوث في التشريع الإسلامي، للشيخ المراغي ص43، والحكم التخييري في الشريعة لسلام مذكور ص339)... وعليه فإن دراستهم لأصول القوانين ونظرياتها وتصديهم لقضايا يطبقون فيها الأنظمة في المحاكم الشرعية لا ينزع عن هذه المحاكم صفتها كمحاكم شرع ولا يجحد على القضاة صفتهم كقضاة شرع. - إن هذه الديار محكومة بأحكام الشريعة، فهي الأساس، ونعني هنا القرآن والسنّة وما أجمع عليه الفقهاء في المذاهب الأربعة، إلا أن الذي لا يغرب عن الذهن هو أن الكثير من الآصار بين الناس وخصوصاً في أمور التجارة والإدارة وعلاقة الفرد بها.. تحكمها الأنظمة أي القوانين التي سنها ولي الأمر والتي هي كما أسلفت تعد من الشريعة... لأن من مصادر الأحكام في الشريعة.. المصلحة المرسلة، وهي قاعدة أجمع عليها علماء الأصول في الشريعة، وفي هذا الزمان كثرت المصالح المرسلة، وهي مصالح تمس الضروريات والحاجيات التي أتى بها الزمان ولم يرد حولها نص يحللها أو يحرمها، ولذا فإن هذا تطلب من ولي الأمر تنظيمها بإصداره (أنظمة) أو قوانين لا تتعارض مع القرآن والسنّة، وعليه فإن هذه القوانين كقانون الشركات وقانون العمل... وغيرها تعد من الشرع.. لأن مصدرها المصالح المرسلة التي أجمع - كما ذكرنا - علماء الأصول في الفقه الإسلامي على أنها من مصادر الشريعة الإسلامية، فإذا درسها القضاة وتمكنوا منها وعرفوها وطبقوها في أحكامهم، فإن هذا سيرتقي بأداء سلطة القضاء ويرسي العدالة في أحكامهم، وإذا عرفنا أنه قد حيل في عهد القضاء الذي ولى بين الدارسين في كليات الشريعة ومعهد القضاء العالي وبين دراستها، فإن هذا يعني أن قصوراً له خطره قد اعترى مناهج هذا المعهد الذي يخرج القضاة.. لماذا؟... لأنه أدى إلى تخريجهم وتعيينهم وهم غير قادرين على تفسير هذه الأنظمة وتطبيقها، أي هفت فيهم بعض الاشتراطات التي سنتها الشريعة وفرضتها على من يتولى القضاء ونعني هنا العلم بجميع الأحكام الشرعية المطبقة سواء كان مصدرها القرآن والسنّة والإجماع وفقهاء الشريعة أو تلك التي صدرت بأوامر من ولي الأمر كأنظمة (أنظر: الفقه الإسلامي وأدلته - لوهبة الزحيلي ج6 ص744 ط1972). - ومهما يكن من أمر.. فإننا لحسن الطالع نحيا الآن في عهد قضائي جديد ومن هم على هامته يدركون بثاقب نظرهم وسعة أفقهم أن تحسين مستوى القضاة العلمي والنهوض بتأهيلهم.. غدا ضرورة كبرى، ولهذا فإني أقدم هذا الاقتراح إليهم.. وهو أن يُدمج قسما السياسة الشرعية والفقه المقارن في معهد القضاء العالي بحيث يدرس طلابه معاً ودون فصل دراسة منهجية ومتعمقة لأحكام الشريعة، وأصول الفقه وقواعد القانون.. أي الأنظمة.. أي تغدو مناهج المعهد كمناهج كلية الشريعة بجامعة الأزهر،.. ومن ثم يتخرج الطالب بعد أن غدا على معرفة وعلم بأحكام الشريعة وأصولها وعلى وجه مُفصل، سواء تلك التي وردت في الأثر أو ما أتت بها قوانين (أنظمة) تعد من الشريعة لصدورها لتنظيم مصالح الناس، فهذا ولا مرية سيوسع معارفهم ومداركهم وملكاتهم الفقهية، ويعيد لمحاكم الشرع ولايتها الكاملة، فتنظر هي وحدها كل الخصومات الثائرة بين الناس. - ولهذا فإني أتقدم بالاقتراح التالي لتطوير مناهج معهد القضاء العالي. - بعد دمج القسمين في مناهجه أي قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية، تكون سنوات الدراسة في معهد القضاء ثلاث سنوات وليس سنتين وذلك على النسق التالي: - تجعل السنة الأولى كسنة تحضيرية بحيث يدرس الطلبة فيها ما يلي: 1- النظريات الكلية للفقه الإسلامي في أحكام المعاملات. 2- دراسة موسعة في أصول الفقه الإسلامي، فلهذا العلم دور كبير في تطوير ملكة الطالب (أي قاضي المستقبل) الفقهية وخصوصاً قدرته في تفسير الأحكام (واقترح كتاب وهبة الزحيلي). 3- نظرية القاعدة القانونية كمدخل أو مقدمة لدراسة الأنظمة، ونظرية الحق. 4- دراسة لنظريات العقد والشرط والتعسف في استعمال الحق في الشريعة. 5- دراسة مبادئ للقانون الإداري (وهو ما يسدي فكرة واضحة عن قواعد الأنظمة الإدارية)، ويستحسن أن يدرس موجز لكتاب سليمان الطماوي.. فهو من أعظم أساتذة القانون العام. 6- دراسة لمبادئ القانون التجاري. ملاحظة: (بالإمكان ضم المواد هذه إلى مناهج كلية الشريعة بحيث تقتصر الدراسة في المعهد على ما هو مذكور في القسمين (ب) و(ج). (ب): تكرس السنة الثانية لتدريس المواد التالية: 1- القسم الثاني من الدراسة المقارنة للحق الشخصي أي القسم الثاني من كتاب السنهوري.. كما يضاف إلى هذا تدريس مادة الالتزامات في القانون المدني وفي الشريعة فهي لها ضرورة.. بل هي حجر الزاوية في معارف أي قاض، وكذلك كتاب نظرية العقد بين الشريعة والقانون - لعبدالمنعم فرج الصدة. 2- مبادئ التشريع العقابي، كدراسة مقارنة لنظرية الجريمة ونظرية العقوبة في الفقه الإسلامي مقارناً بالفقه الوضعي (وأعتقد أن كتاب عبدالقادر عودة - التشريع الجنائي الإسلامي - هو الأصلح أو كتابي الجريمة والعقوبة في الشريعة للشيخ محمد أبو زهرة). 3- دراسة لأصول المحاكمات (نظام المرافعات) أي دراسة الشروح والنظريات والاجتهادات الخاصة بأحكام المرافعات. 4- دراسة أحكام الشركات التجارية في النظام السعودي، مصحوباً بالشروح الموسعة للفقهاء. 5- دراسة لقواعد الإثبات الشرعية في القضايا المدنية (وأقترح أن يدرس موجز لرسالة محمد الزحيلي امام جامعة الأزهر عن قواعد الإثبات). (ج) - تكرس السنة الثالثة للتخصص، فالذين يذهبون للمحاكم الشرعية المتخصصة يدرسون في القسم الذي تدرس فيه المواد التالية: 1- حقوق الملكية (دراسة متعمقة) فيها ومقارنة بين الفقه الإسلامي والفقه الوضعي. 2- دراسة العقود كل على حدة في الفقه الإسلامي في الفقه الوضعي، ويدرس معها ما استجد من عقود أوجدها العرف أو التعامل في هذا الزمن كالبيع الإيجاري - (وأقترح لذلك تدريس كتابين الأول هو أحكام المعاملات الشرعية للشيخ علي الخفيف - والثاني كتاب المعاملات المالية المعاصرة.. لوهبة الزحيلي.. فهو قد بحث وحدد الأحكام الخاصة فيما جد من جديد في العقود والمعاملات (كالبيع الإيجاري وعقد التأمين وبيع التقسيط وأحكام بدل الخلو.. الخ. 3- دراسة قانون العمل (نظام العمل والعمال)، وفيها يدرس عقد العمل. 4- دراسة الجرائم، كل على حدة في الفقه الإسلامي كالقتل والسرقة، وجرائم العرض.. وأيضاً الجرائم في الفقه الوضعي - كالتزوير والتزييف، والرشوة، والمخدرات وجرائم الأموال.. الخ. 5- دراسة أحكام الإجراءات الجزائية (أي تدريس نظام الإجراءات الجزائية الذي صدر وطبق منذ عامين تقريباً) - وقواعد الإثبات الجنائي في الشريعة، ويستحسن أن يدرس هنا كتاب (أحمد فتحي بهنسي). 6- دراسة أحكام الأوراق التجارية والإفلاس التجاري والتجارة البحرية. 7- دراسة طرق تنفيذ الأحكام القضائية (ويحسن هناك دراسة تشرح نصوص نظام المرافعات السعودي) في هذا الخصوص. (د) - أما أولئك الذين سيذهبون إلى ديوان المظالم فيدرسون الآتي: 1- يدرسون نظريتي العقود الإدارية والقرارات الإدارية على وجه متعمق (أقترح أن يُدرَّس سليمان الطماوي في الموضوعين). 2- يدرسون قواعد الإجراءات في ديوان المظالم. 3- يدرسون قواعد القضاء الإداري وقواعد إلغاء القرارات والطعن فيها (كتاب سليمان الطماوي في هذا الموضوع). 4- يدرسون قواعد نظام الخدمة المدنية والتقاعد بتعمق، وأيضاً نظام التأمينات الاجتماعية. ه - بعدها يذهب المتخرجون لمعهد خاص لتدريب القضاة لمدة عام واحد تضاف إلى خدمتهم، والتدريب هذا لازم سواء من أولئك الذين يذهبون للمحاكم العادية أو ديوان المظالم، إذ يتلقاهم هذا المعهد بعد التخرج من المعهد العالي للقضاء، مدة تضارع 12 شهراً، بحيث يتعلمون فيه كيفية إدارة الجلسات القضائية، وكيفية صياغة الأحكام ودراسة القضايا والبحث في المراجع الفقهية، وتطبيق ما درسوه في معهد القضاء، على قضايا، ودراسة قضايا سابقة وهكذا.. على أن يتولى موضوع تأهيلهم قضاة متمكنون أمضوا على الأقل ثلاثين عاماً في القضاء، ويستحسن أن يؤتى بهم من مصر، فلهذه الدولة باع طويل في القضاء، ولدى القضاة المصريين خبرات لا تبارى في هذا المجال. (و) - لابد وأن تكون هناك مجلة أسبوعية أو شهرية تنشر فيها الأحكام الصادرة من المحاكم، ومعها بعض التحليلات والتعليقات إذا أمكن.. وهذا الأمر يسري بدوره على ديوان المظالم.