لقد وقف شعر رأسي هولاً عندما سمعت عن الحكم الذي أصدره قاض بمحكمة جدة، قضى فيه بجلد تلك التي قادت سيارة في إحدى شوارعها عشر جلدات.. أقول قولي هذا. لأن حكم القاضي أتى عقب صدور أمر خادم الحرمين أيده الله بمشاركة المرأة في مجلس الشورى والمجالس البلدية، ولأن المرء يحار فيما لاذ به القاضي، كي يبتدع الجريمة التي قارفتها تلك المرأة، وما هي قواعد الشرع التي آوى إليها كدريئة لحكمه الذي أنزل بها ضرراً هذا العقاب، فالعقوبة في الشريعة أياً كانت سواء أكانت من عقوبات الحدود والقصاص والتعازير لا تُنزل إلا بمن قارف جناية أو جنحة أو مخالفة. وهذه التي قادت السيارة لم تقترف لا جناية ولا جنحة ولا مخالفة، لماذا؟ لأن الشريعة لا تجرّم من تقود دابة (التي هي السيارة في أيامنا هذه)، ولم نر في نصوص الشريعة ما يقول بإنزالها على من يقود دابة (أي السيارة)، لا في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع. لذا فإن فقهاء الشريعة لدينا وفي أيامنا هذه نزعوا إلى الرأي القائل بأن قيادتها لها أمر أباحته أحكام الشرع. وإن كان ذوق البعض أو مزاجه يأباها في مجتمعات المدن الكبيرة المكتظة حذر العنت أو الحراجة، التي تلاقيها بعض النساء من قيادتها السيارة، كما أننا لم نلحظ في أي من التشريعات التي صدرت من ولي الأمر ما يحوي نصوصاً تعاقب بجلد من يقود سيارة، وحتى العقوبات التي أتى بها نظام المرور. فإن لا أحد يرى من بينها ما ينص على هذه العقوبة، فمثلاً يعاقب النظام ذلك الذي يقود سيارة من دون رخصة بغرامة مالية أو الحبس لأيام، فهذا ما نصت عليه المادة الثانية منه، التي اشترطت الحصول على رخصة قيادة قبل قيادة المركبة وكل العقوبات الخاصة بالمخالفات الأخر شبيهة بهذه العقوبة، ولا يمتري اثنان في أن هذا القاضي الذي انتبذ لنفسه هذا الحكم العجائبي الذي قضى فيه بالجلد قد ضر تلك المرأة. كما أنه ضل ضلالاً بعيداً عن النظام الذي أصدره ولي الأمر. بل تنزى حكمه هذا بعقوبة جمّ بها خياله. فهّبْ أن تلك المحكوم عليها قد اجترأت على قيادة سيارتها من دون رخصة. فإن النظام يلزمها فقط بدفع غرامة مالية، مع أن الثابت أن معها رخصة دولية، أي أنها لم تقارف ذنباً يعاقب عليه قانون المرور، الذي لم يفرق بين الرخصة المحلية والرخصة الدولية، وهذا يشي بأن هذا القاضي قد هام في حكمه عن الشرع وعزب عن التشريع الذي أصدره ولي الأمر، رغم أنه ملزم كقاض بتطبيقه، كما أن هذا القاضي بهذه الحقيقة القائلة بأنه أساء بحكمه هذا إلى دولتنا، وإلى قضائها وأباح لكل حاقد يجيش في جوانحه غّل عليها أن يتفكه شامتاً على قضائنا قضاء الشرع بسبب ما يحكم به بعض القضاة في دولتنا أعزها الله، وهذا الحكم هو أحد الأمثال التي يضربونها للناس كبرهان، لكن الذي لا جدال فيه هو أن حكم القاضي هذا وضاح بمستوى تأهيل بعض القضاة عندنا، وهو ما يتأسى له ويئن كل من كان قلبه على العدالة، فالقاضي العليم بأحكام الشرع نصاً ومعنىً وروحاً لا يهتك الشرع، والقاضي العارف بأحكام النظام لا يتزاور عنها، وحتى لو أن الدعوى قد أثارها الادعاء العام على المحكوم عليها هنا، فقد كان لزاماً على هذا القاضي أن يحكم ببراءتها. فهي وإن كانت قد قادت سيارتها من دون رخصة سعودية. إلا أنها قادتها برخصة دولية، أي أنها لم تأت بإثم يوقعها تحت سيف العقاب المنصوص عليها في المادة (2)، كما أنها بصنيعها هذا هي بمنجاة من عقاب الشرع لأنه يبيح ما فعلت، بل إن القاضي تعامس عن حقيقة راسخة، وهي أن في حكمه هذا قد فرّق بين الناس، فالكثير من النساء عندنا في الأقاليم يقدن السيارة ولو كان قاضياً بأحدها لما حكم عليها، إذ لم نسمع بأنه قد حكم على أية واحدة منهن بعقوبة، ومن هنا فإني لا أدري كيف لم يزعه الضمير عن الحكم بالجلد الذي فيه إذلال ومهانة لآدمية الإنسان. بل إن إذلال المحكوم عليها. سيكون أضعافاً مضاعفة إذا عرفنا أنها ربة بيت، ولديها أطفال، والواقع أني لا أهيم عن الحقيقة إذا قلت بأن مستوى بعض قضاتنا هو المآل الذي أفرخته – مع الأسف – طرائق إعدادهم وتأهيلهم التي ما ونت على حالها دون تغيير. فهي طرائق تكتفي بحواشي ومتون الروض المربع والكشاف التي أوردت أحكاماً لمسائل أرمس عليها الدهر، ومع هذا فإنهم يولون القضاء الذي له القول البتار في المال والرقاب قبل أن يكون لهم راسخ علم بأحكام الشريعة نصاً وروحاً، ودون عميق معرفة بالأنظمة المدنية والتجارية والجنائية والعمالية وقواعدها، فهي لا تُدّرس في كليات الشريعة، أما الذي يدرس في قسم السياسة الشرعية بمعهد القضاء العالي، الذي لا يُعين المتخرجين منه دارسوه في القضاء فهي أمشاج من أنظمة تدرس على نحو جد مختصر يكتفي فيه بالظاهر، ومن ثم فإنه لا يصيبون بذلك من علومها إلا العِذَار، مع أن النظام الذي يصدره ولي الأمر حاوٍ لأوامر ونواهي تنظم الآصار بين الناس بما فيه مصلحة عامة لهم. لذا فإنه يعد من الشرع. فهذا ما قطع به شيخ الحنابلة الإمام ابن القيم حين قال: «إن الشريعة أساسها الحكم والمصالح وهي عدل ورحمة ومصالح فكل ما دخل في هذا هو من الشريعة – انظر: إعلام الموقعين ج 3 ص 114 – 120»، بل لهذا السبب نرى شكاة الكثير من أصحاب القضايا، فها نحن الكثير من الأحكام تترى من بعض القضاة، وخاصة حديثي التعيين هي عن الشرع بمفازة، ولعل هذا ما حدانا إلى المطالبة بإعادة النظر في طرائق تأهيلهم، وطالبنا أيضاً بتطوير المناهج في كليات الشريعة ومعهد القضاء العالي، فيدرسون نظريات الشريعة في العقود والمعاملات ونظرية الجريمة والعقوبة، وأيضاً القوانين المطبقة ومعها نظريات الالتزام والعقود في القانون المدني، ونظريات القانون الإداري، ونظرية الجريمة والعقوبة في الشريعة في القانون الجنائي وعلم الإجرام، وطالبنا بأن يكون هناك تدريب لهم في معهد للتدريب متخصص، فيتدربون فيه على إدارة الجلسات ودراسة القضايا وعلى البحث في مراجع الفقه، وكيف يستظهر الراجح من الأقوال وما عليه إجماع، وكيف يصدر أحكامه بتسبيب وإيجاز لوقائع القضية واختصار لما أورده كل خصم من ذرائع ودفوع ليتعرف على ما هو الغلاَّب بعد مقارنتها في التسبب بدفوع خصمه مع تحليلها بتقليب القضية على جنوبها فيتدبر ما ظهر منها وما بطن، وذلك ليستبين من هو على حق، أي لا يكتفي القاضي في حكمه كما هو صائر الآن بسرد كامل لكل ما قدمه الأخصام، ثم يختمه بقوله «ثبت عندي»، وقد قلنا بأنه لا يمكن أن يكتفي بملازمة حديث التخرج لقاضي في محكمة، فهذا لا يعد تدريباً بحال، لأن القاضي الذي يلازم عنده يماثله في الدراسة والتأهيل، ولهذا نرى بعض القضاة يحكمون بمنطق المطوع الذي لا يعرف من التعازير إلا الجلد الذي فيه غالباً مذلة للإنسان وإذلال لآدميته، وهو ما تتأذى به الضمائر، لأنها تناهض روح الشريعة التي لم ينزلها جلّ وعلا إلا رحمة للعالمين. بل في ذلك إساءة لأحكام الشرع والقضاء، فأحكام الشرع في عقوبات التعزير تسدى إليه خيارات كثيرة تبدأ من التوبيخ إلى الغرامة إلى الحكم البدليل، فيلزم المدان مثلاً بأداء خدمة عامة لشهر أو شهرين. الخ. أكرر وأقول بأن لا يحكمون بمنطق القاضي الثّبْت ذي الحجا المتحري للعدالة. العالم بأحكام الشريعة نصاً وروحاً، التي هي كلها عدل ورحمة، والعارف بأحكام وقواعد النظام الذي أصدره ولي الأمر، لتنظيم مصالح الناس، لأن معرفته لها ولطرائق تفسيرها والترجيح بين أحكامها واختيار ما يلائم المتهم من عقوبات. أمر له لزومه كقاض يحكم بالعدالة فيما يشجر بين الناس من نزاعات، لقد أصدر ولي الأمر حفظه الله القوانين التي من شأنها الرقي بمستوى القضاء ورصدت لتنفيذها مبالغ من الأموال جسام، وقد خلا على هذه القوانين ما يضارع سنين أربع، إلا أن أحداً لم يلحظ أي تغيير عما كان عليه في دابر الأيام، ولا أحد يلوم مجلس القضاء الأعلى إذا حار ولبث كل هذا الزمان باهلاً لا يدري على ماذا يلوى. لأنه لم يجد القضاة المختصين الذين يتبوؤن عن جدارة مناصب القضاء في المحاكم المتخصصة، فلا معهد القضاء ولا كليات الشريعة لا تخرج قضاة متخصصين في القضاء التجاري أو الجنائي أو العمالي، الأمر الذي يظاهر قولي في أن مقطع الذراع في الرقي بالقضاء هو تطوير المناهج في معهد القضاء العالي وكليات الشريعة ولزوم التدريب في معهد خاص، ولا أدري لماذا إلى الآن لم يحدث التطور رغم أن ذلك الذي وقف عثاراً دون تحقيقه أمامه قد ولى من منصبه، ومهما يكن من أمر. فإني لا أجد ما أختم به مقالي هذا إلا القول بأن شعر رأسي ربما ما انفك واقفاً لو لم يصدر خادم الحرمين حفظه الله أمره العادل بالعفو عن تلك المرأة من هذا الحكم الذي عزرها القاضي فيه بالجلد، فما أمر به حفظه الله هو حكم الشرع الصحيح. * محامي سعودي. [email protected]