لازمت كثيراً من الرحالة فكرة تملّك الأرض التي يكتشفونها، وما لبث أن ترسخ تقليد استعماري فحواه أن الأرض التي يكتشفها أحد الرحالة تعود ملكيتها إلى بلاده. وبهذه الطريقة نسب كثير من المستعمرات إلى الامبراطوريات الغربية لأنها دفعت بمغامريها ورحالتها الى بسط نفوذها في أرض بعيدة عنها، وقد قام السرد بتمثيل تلك الحال الغربية، ف "روبنسون كروزو" في رواية "دانيال ديفو" ملك الجزيرة التي انتهى اليها في ضياعه بعد تحطم السفينة التي كان يبحر بها، وعدّها جزءا من المستعمرات البريطانية، فله حق التصرّف بها كما يشاء، وحينما عاد الى بلاده كانت مغامرته قد أثمرت عن الاستحواذ على جزيرة كاملة. تلك الحال شائعة في المدونة الاستعمارية، وحدث أن وقع ذلك في شبه الجزيرة العربية في العقود الأولى من القرن العشرين، فالسباق بين "فيلبي" و"توماس" في الارتحال عبر الربع الخالي، وتعذر ذلك على الأول بسبب النزاعات القبلية في الجنوب أعطى الثاني فرصة السبق في عبور تلك الصحراء، مما منح لبريطانيا حق أن يكون المجال الجوي الخاص بها مباحا أمام طيرانها. أردت بهذا أن أورد مثلا قريبا على السلوك الاستعماري الذي سرعان ما تأدى عنه عرف خاص بتملك أرض الآخرين، وهنالك أمثلة في سائر قارات العالم على ذلك، وسأقف على سلوك "فيلبي" الذي لم يحل وجوده شبه الدائم في البلاد دون أن يتصرف على أنه شبه مالك للأرض التي يرتحل فيها بادعاءات أنه مكتشفها. ولطالما صرّح بأن كثيرا من نفائس الآثار في شبه جزيرة العرب لم ينتبه أحد إليها قبل أن يصل إليها بنفسه؛ فالأشياء لا أهمية لها بذاتها إنما بملامسته لها. فمن ذلك أنه اعتبر نفسه مكتشفا لآثار "شبوة" التي كانت عاصمة الحميريين، وراح يخلع عليها الأسماء التي يريدها، فسمّى المعبد الديني ب "معبد عشتاروت". فهو القادر على تسمية الأشياء، والمؤهل لادراجها في سياق التاريخ، أما الأهالي فيدفعهم طمع بالمال فحسب. إن الأحجار التي جمعوها ليقايضوا بها الدراهم لا قيمة لها عنده إنما القيمة تقتصر على أحجاره هو. وقد طعن في أخلاقياتهم فيما احتفى بالأحجار التي يقيمون عليها، لأنها جزء من آثار تاريخية أراد أن يقرن نفسه بأهميتها. ظهر "فيلبي" بهيئة المكتشف النزيه الذي يوفّر الأسباب كلّها لتحقيق كشف جغرافي أو بشري في شبه الجزيرة، لكنه كثيرا ما تعثر مستطردا في وصف أخلاق القبائل وسلوكها. وقد حكم على بعض الجماعات بأنها أقرب إلى الدهماء، وراح يختار أمثلة على ذلك مدللا على أحكامه، ومن ذلك جماعة تعذّر عليها الكلام فاستبدلته بالإشارات وسيلة للتفهم فيما بينها، وجماعة أخرى لا تقلّ غرابة عن الأولى إذ هي لا تقتل إلا الأقربين من القبيلة ولا تتعرض للأغراب، وتفسيره النفسي لهذه الجماعة التي لا تؤذي غير الأقارب والأنسباء والجيران "هي حالة من السادية المتقدمة جدا أو المازوخية في بقايا مرضى من جنس شديد الانحطاط". وجماعة أخرى عاجزة عن التفاهم فيما بين أفرادها بالحديث الهادئ فكان جدالُها صياحا وصراخا حادا لا يفهم منه شيء، ثم جماعة أخرى اشتهرت بالمساومة على ثمن ما تملك من الأغنام فكانت تبالغ في الأسعار محاولة استغلال الغرباء بطمع لا نظير له "إن هؤلاء القوم غير طيبي المنبت والأصل، وربما يكون من الخطأ الشنيع الحكم عليهم بأي من المعايير الانسانية. ولقد انطبعوا في ذاكرتي وحوشا كاسرة". وأخيرا حينما تمردت عليه جماعته من الأدلاء وأصحاب الإبل لأنه خالف الاتفاق معهم وراح يطلب تغيير مسار رحلته إلى مناطق لم يُتفق عليها في البدء وصفها بأنها مجموعة من "الذئاب التي آويناها بعناية وكانت مستعدة للانقضاض علينا. وهذا التمرد يجب أن يخمد أو يخفف من غلوائه بأي ثمن. كان "فيلبي" يتشفّى بمواقف تذلل الآخرين له، فيفتح كيسه ويمنحهم بعض الهبات المالية الضئيلة كأنها مكرمات يفيض بها عليهم ناسيا الأعمال التي قاموا فيها، ويتلذّذ إذ يراهم يتدافعون لنيل أعطياته كأنه متفضّل عليهم بها. إن محو حقوقهم يماثل اختلاق حقوقه. وثنائية محو حقوق الآخرين واختلاق حقوق "فيلبي" عامت على معظم رحلاته في الصحراء العربية، وندر أن قام بمراجعة ذلك، فهو يريد إدراج أهل الصحراء وعلاقتهم في سياق مغامرة يجني منها الشهرة، فثمرة الارتحال لديه محكومة بالنشوة الشخصية أكثر من المعرفة الموضوعية. يتوارى الكرم العربي خلف هذه الصورة، فكأن "فيلبي" يرحل بين أقوام جائعين، وشرهين، وهي صفة طالما أشار إليها كل الرحّالة إلى درجة أن البدوي يصاب بالخذلان إن لم يكرم ضيفه بما يفوق إمكانياته. وحدث أن قام أحدهم بإطلاق النار على "فيلبي" نفسه "لأنه حاول مغادرة بيت الضيافة قبل الأيام الثلاثة المطلوبة". ظل "فيلبي" موظفا استعماريا غير منقطع عن الأحلام الإمبراطورية يتقاضى راتبه منها حتى نهاية حياته، وانتهى الأمر بطرده من شبه الجزيرة العربية، ولكنه شغل بهاجس لعب دور رجل "القدر"، فانهمك بوضع نفسه في المقام الاستعماري ذاته الذي كان للورنس في الأردن، ومس بيل في العراق. وفي النهاية يريد كلٌّ منهم الادّعاء بأنه صانع ممالك مشرقية في ظل الحقبة الاستعمارية، وأظهرته رؤيته للعالم رجلا عارفا وسط جماعة جاهلة.