كل عام وأنتم بخير. عبارة موجزة تحمل معاني كريمة ودعاء جميلا. ولعلنا نستهل أيامنا المستقبلة بشيء من الكلام الخفيف، والشعر الظريف مما عانق بعض المواقف الاجتماعية، وبثه الشاعر عبر بريد الشعر الذي يحظى بالقبول، ويتلذذ المتلقي بسماعه. ونختار ما استهل الشاعر عايد القريشي رحمه الله به حوار ليلة من ليالي الرديح يشكو حالة نادرة مختبراً نظيره الكرنب ملتمساً تقديم مشورته: انظر بعد كان في اللي كان ريِّس والاحكام في يدِّي نزِّلت من مرتبة سلطان لا قَلّ من مرتبة جندي تحول كبير ندر أن يحدث، فما على الكرنب إلا أن يجيب، وهو شاعر مبدع، وند كبير للقريشي وخبرته حينها أقدم من القريشي: اللي حَكَمْ في القضيَّه شان حسب الذي قلت في عهدي بلا سبب ما انحفض ميزان من امتيازي ومن نقدي ولكن القريشي لا يقبل هذا الرد ويطول الحوار بينهما، والموقف غالبا ما يكون مختلقاً أضفى عليه غرابة التعبير لشد الانتباه وإشغال المحاور، وقد يكون تصويراً لحالة زوج طلق امرأته فزال سلطانه عليها، أو غير ذلك. أما الشاعر برجس عبدالكريم الحمدي فيقول: أنا اتحكَّمْ على دولة أما انت حاكم على ثنتين لو ودِّكْ تروح في جولة ما تدري الانقلاب من اين وهو تساؤل ربما عني به الشاعر الدفاع عن رفضه للتعدد. أما الشاعر أبو شعبان فهو من المبدعين البارزين في الكسرة ومن الشعراء الرواد في ينبع، يبدو أنه سمع من تنادي حبيبها أو تجيبه بقولها: خير، لبَّيْ بدلا من قولة: نعم. ولكن حبيبة الشاعر تجيبه: هاه. كلمة تخنق العذوبة التي ينبغي أن تكون في خطاب المحبين، وكلمة خير من عبارات الرضا والتودد في منطقة وادي الصفراء وينبع، لذا يحتج الشاعر فيقول: كلاً حبيبه يقول له خَيْر لبَّيْك سعدَيْك لا ناداه وانا حبيبي كلامه غَيْر كل ما زهمته يقول لي هاه والجدل بين أفضلية الألوان من النساء قديم، ولكن بشائر الانفتاح على الآخر يسر الأمور على المحرومين من اللون الأبيض، وصاحبنا تزوج فتاة بيضاء من خارج البلاد، وأخذ يصحبها عند خروجه من المنزل لغير حاجة، فسلط أحد الشعراء الأضواء عليه فقال: بِشْبِشْ عشق له زرُنْبَاقَة داير بها في البلد فرحان مسكين جاته على فاقة قَصْده يكايد بها العدوان والبشبش هو سرطان البحر، والزرنباق أو الصرنباق حيوان بحري محاري، وهكذا يستعير الشاعر من بيئته ما يسقطه على أبطال شعره ليواري الشخصية المستهدفة. ويعتبر الشاعر محمد بن أحمد المحمادي رحمه الله من رواد الكسرة الكاركاتورية باستخدامه أدوات ومصطلحات عصرية لبناء الكسرة مثل قوله وقد تقدم في السن: ما فيه بُويَةْ من اللمَّاع ما في البلد سَمْكري شاطر يُرد شايب وَلَدْ للسَّاع ما دام له في الهوى خاطر؟ وقوله في زمن طفرة البناء: في القلب حبك بنى وعَمَّر وفي الحشا زَبَّر المونة واليوم جاب الخشب سَمَّر والساس قاموا يصبُّونه ويروي لنا حادثة طريفة عند ما طلبت منه زوجته الذهاب بابنهما إلى المستشفى لعلاجه فأركبها في مقدمة سيارته الوانيت عن يمينه وأمسك بابنه عن يساره، وصادف خروجهما مرور بعض الفتيات فقال: سِرْب الظبا يوم قابلني أمس العصر مَيْلة الفَيَّةْ عن ايسرى الداب متثنِّي وعن ايمني تِلسِن الحيَّة وقابلني تنطق في اللهجة الشعبية «قابنِّى» بدمج اللام في النون وتشديدها، وكان لأمر الشاعر في هذا الموقف من الاستسلام و«مسك الدرب» دون التفات أو بث إشارة، ولكنه صب جام مشاعره الغاضبة في هذه الكسرة. ولما كان من طبيعة الكسرة الايجاز والتكثيف لعدم تجاوز أبياتها البيتين كانت الأنسب للتعبير عن المواقف الشاردة والأحداث العابرة، كما تعبر التوقيعات في الأدب العربي عن أدق الارادات والاشارات الموجزة. ولا يتوقف هذا النوع من الشعر على الكسرة فحسب وإنما حظيت فنون الشعر الشعبي الأخرى بهذا النوع الشعري الموجز، يذكر الشاعر عبدالله اللويحان في ديوانه أن الشاعر سليمان الشريم تعرضت راحلته لما منعها من مواصلة السير إلى الحج في عام 1351ه فأدركه موكب الأمير محمد بن عبدالعزيز رحمهما الله فالتمس اركابه معهم بقوله: لا تخلِّيني تَرَايْ بمِزْهبي ونْعالي طالت السفرة علي ولا معي خِرْجِيَّة كان ما حمَّلتنى بالموتر الحمَّالي عِدِّني من فوق جنبه قِرْبةً ممليَّة وكان له ما أراد. ويذكر الباحث القدير إبراهيم الخالدي في كتابه «المستظرف النبطي» أن الشاعرة موضي البرازية ساخرة من الهوى وأهله: يا اهل الهوى وش لون مِلَّة هواكم بالله عليكم كيف جاكم وجيتوه؟ والله لو يبطي عليكم عشاكم ويمرُّكم غَضَّ النَّهَدْ ما عرفتوه!! نعم يا موضي، ولكن قضية الهوى الذي تنشدين أعمق مما يخوضه بعضهم، والهوى الحقيقي ما هاتف الفؤاد وسيطر على مشاعر الإنسان وامتلك زمامه، وهو فنون وفنون يقول الشاعر الصيدلاني: الله أكبر لقيت الود قاعِدْ على الدرب قوماني يستسلب الروح مزح بجد ويردَّها للجهل ثاني وكان القوماني أو قاطع الطريق من الأخطار التي يصعب الفكاك منها. على أية حال، كانت تلك المقتطفات الخفيفة تعبر عن جانب هام لم يغفله الأدب الشعبي، إنه الأسلوب الذي يؤثر في المتلقي ويعود على الشاعر بكسب كبير وفق ما خطط له مادياً كان أو معنوياً، ومهما كانت النوايا فهو يصب في مسار الابداع ويساير أدب الفصحى في أغراضه.