ليس المجال مجال أنانيات عربية، فكل العرب مهددون لسبب أو لآخر. ولعل الأمة العربية تحاسب اليوم على حسنات عندها لا على نقائص، فمصلحة العرب في هذه المرحلة بالذات هي أن يتكاتفوا وأن يعطوا كل ما عندهم منذ قال الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي في بعض قصائده الشهيرة ذلك البيت الشعري الذي يقول: "وعز الشرق أوله دمشق" والوعي العربي كامل عند الصغير والكبير بمكانة سورية الدولة والوطن كقامة في مسيرة الأمة العربية العامة حتى أصبح أول درس يتلقاه الشخص العروبي في مسيرة أمته العربية وأحوالها المفطنة عن الدور الخاص الذي تلعبه سورية، فإذا كان ذلك الدور كبيراً اطمأن الشخص العروبي على أن حال الأمة في خير سواء في المشرق أو في المغرب. ولهذا الاعتقاد أسبابه فحتى قيام الدولة الأموية كان الطابع الأبرز لمسيرة الأمة إسلامياً خالص الاسلامية فالخلافة الراشدية كانت اسلامية صرفة وكذلك كان العصر العباسي وليس إلا في العصر الأموي حتى علا الصوت العروبي على غيره من الأصوات. فمع الأمويين وليس إلا معهم حتى تسلمت العروبة راية القيادة في مسيرة الأمة ففي العهد الراشدي كان صوت الاسلام هو الأظهر والأبرز وكذلك كان الأمر في العصر العباسي فمع الأمويين وليس إلا معهم حتى استقلت العروبة بالراية. أما في العصر العباسي فكانت الراية للاسلام بالدرجة الأولى بل والأخيرة أيضاً. صحيح أن العروبة كانت مرعية الجانب منذ أيام انطلاق الرسول محمد (عليه السلام) بالدعوة بدليل أنه منذ انطلاق الدعوة في مكة نادى المنادي بأن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. تلك هي ثنائية العروبة والاسلام. من دخل الحرم فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. استمرت هذه الثنائية في أيام الخلفاء الراشدين وفي العهد الأموي. لا حاجة الى التنبيه أنه بعد فتح الأندلس استقرت العروبة أكثر فأكثر بموقع الصدارة حتى بدا وكأن هناك ثنائية اسمها الأندلس وبلاد الشام استقرت على أنها وجه الامبراطورية العربية المنذور والمهيأ للدوام. ولا حاجة الى القول الآن ان الثنائي الدمشقي الأندلسي شكل الوجه الذي أطلت به الأمة العربية على العالمين الافريقي والأوروبي فكل من اسبانيا وافريقيا اعتبر ان العلاقة بين العروبة والإسلام تكامل بلا تنافر وتعاون بلا استئثار. وكأن أحمد شوقي بقوله في قصيدته الشهيرة بأن عز الشرق أوله دمشق أراد أن يقول إن تقدم مصر العددي على سورية أو على أي قطر عربي آخر ينبغي ألا ينتزع عنه حقه في تصنيف نفسه أولاً على هذا القطر العربي أو ذاك حقه في اقتراح تصنيف خاص به على أنه هو الأول وفق نظام يقترحه هو على الآخرين معطياً به مقياساً خاصاً للأولويات يطرحه هو وفق مقياسه المفضل لهذا السبب أو ذاك. ولا ننسى أن للأذواق حقها في أن تختلف مادام أنه ليس في ذلك افتناناً على الشرائع وتعسفاً في المقاييس. ليس المجال مجال أنانيات عربية، فكل العرب مهددون لسبب أو لآخر. ولعل الأمة العربية تحاسب اليوم على حسنات عندها لا على نقائص، فمصلحة العرب في هذه المرحلة بالذات هي أن يتكاتفوا وأن يعطوا كل ما عندهم من رأي سليم قبل أي شيء آخر. وبالفعل فليس هناك عربي غني أو فقير، متقدم أو متخلف ليس مهددا لهذا السبب أو ذاك. وعلينا أن نعرف أن الروية والحكمة والدقة في الحسابات هي المطلوبة قبل غيرها. وكأن العقل السياسي العربي هو الذي يستطيع أن يفعل أكثر مما يفعل المال العربي، أو المكانة العربية أو الصداقات. صحيح أن عندنا سلاحين ماضيين واحد هو المال والثاني هو الامتداد الجغرافي، ولكن يبقى الواضح والمطلوب الدائم هو حسن التصرف بالسلاحين الدفاعيين الأساسيين، واحد اسمه العروبة والثاني اسمه الاسلام، فهما أثمن ما بيد العرب، ويحسدهما عليها الغريب والقريب. وأسلم الطرق أولاً وأخيراً هو استنهاض القوتين الرئيسيتين، أي الاسلام والعروبة، فبقدر ما نحن مسلمون صادقون مع أنفسنا ومع غيرنا، وبقدر ما نحن عرب لأنفسنا ولغيرنا نكون واعين على كل ما نملك من نقاط قوة. خصوصاً وأن نقاط القوة هذه متوافرة عندنا كأبناء أمة ذات تجارب كثيرة ومتنوعة، وبها جميعاً نستطيع لا أن ندافع عن أنفسنا فقط، بل أن نوجد لأنفسنا صداقات نحن بأشد الحاجة إليها. طبعاً هناك في هذه الفترة بالذات من هو مستهدف من بين العرب قبل غيره كسورية مثلاً التي تبقى في محيطها المباشر على الأقل ذات دور ومجالات تصلح لأن تبقينا مرفوعي الرأس وسط تيارات وأخطار من كل نوع وجنس. والخطر الأكبر كان ولا يزال في ألا نتذكر دائماً وأبداً أن نقطة القوة فينا هي مكاننا في العروبة كجهة صادقة فكرياً وأخلاقياً وعقائدياً، فإذا خسرنا هذه المواقع أعطينا لكل خصومنا الفرص التي كان دائماً يشتهيها ولم يتمكن من استخدامها. لهذا السبب أو ذاك، ومن أهم الأشياء التي لا يجوز للعربي نسيانها هو أن صدق العروبة كان دائماً سلاحاً دفاعياً وقى هذا الوطن العربي أو ذاك من الأوطان العربية، ولا سيما سورية المعروفة تقليدياً، بل المسماة اسماً بقلب العروبة النابض، فهي ذات التاريخ في محاربة الاستعمار الفرنسي أولاً، وكل الطامعين بالأوطان العربية. وقد وجدت هذه الثنائية الاسلامية العربية المؤلفة من البلاد العربية عموماً ومن دمشقواسبانيا خصوصاً تجاوباً كبيراً على الصعيد العالمي والأوروبي بالذات فسرعان ما فهمه الأوروبيون على أنه محور امبراطورية جديدة بدت في أعينهم مقبولة وصاحبة أهلية للاستمرار. فإذا كان الأوروبيون غير ايجابيين إزاء النظم السياسية السائدة في بلادهم كالامبراطورية الفرنسية والبريطانية. وإذا كان المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون قال: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب فلأن هذا كان قد ظهر من رد الفعل الأوروبي على الفتح العربي للأندلس. ولا ننسى أن سمعة الأنظمة التي أقامها العرب في العالم كانت جيدة جداً، وجزء كبير من ذلك جاء لرد فعل على نوعية الأنظمة التي كان قد حكم بها الفرنسيون والاسبانيون والايطاليون في كل بلد احتلوه. وعن أحوال الامبراطوريات التي كانت في أوروبا قياسا بالحكم العربي كان يميل الى تفعيل نوعية الحكم العربي بالقياس الى المظالم التي رافقت في كل مكان حكم الفرنجة.