تنظر لهذا المولمود الصغير بعد خروجه وأمه من المستشفى يحاول أن يفتح عينيه ليطالع الشمس لأول مرة، تعرف من معلوماتك العلمية أن جهازه البصري لم يكتمل بعد وأنه يحتاج عدة أشهر حتى يتمكن من التمييز البصري والتعرف على الألوان والوجوه. يكبر قليلا يبدأ بالتعرف على بيئته التي تحيط به، يتحول من كائن هادئ يسكن مهده وسريره إلى طفل صغير يتواصل مع بيئته يحاول أن يمسك بلعبة يبتسم لوجه مألوف حين يصحو من النوم، يتحمس لرؤيته قارورة الحليب، يتابع صوتا مرتفعا حوله، يبدأ عملية التمييز بين الوجوه، يعرف الخوف حين تناوله أمه أو أبوه لشخص غريب كي يمسكه أو يلاعبه بلطف. كل هذه التطورات تحدث وتمر بهذا الطفل، ونحن نضحك ونبتسم ونلعب معه ولا نتوقف لنتأمل هذه التطورات التي يمر بها الصغير والتي تدل على نموه العقلي واللغوي وتنبهنا لقدراته. المهتمون بدراسة وظائف المخ، يدرسونه تشريحيا، يحاولون معرفة العمليات البيوكيميائية التي تحدث في خلاياه، يتحدثون عن الارساليات العصبية والمستقبلات الهرمونية، وأيضا ينظرون لتطور الاستجابة العقلية لدى الإنسان في مراحل عمره. هناك من يدرس النمو العقلي والعاطفي لدى الأطفال وهم هنا يدرسون القدرات المكتسبة أو الموجودة بالفطرة لدى هذا الطفل والتي تهيئه للنمو والتواصل والنجاح كفرد منتج وفعال في المجتمع، وهناك من يهتم بدراسة النقص التدريجي في هذه القدرات لدى المصابين ببعض أمراض الشيخوخة والتي تؤثر على النمو العقلي والتواصل الاجتماعي ومن التطور واكتساب المهارات إلى الشيخوخة ونقص المهارات نقارن ونتعلم. يظل الإنسان لغزا يصعب حله، قد نفهم ميكانيكية عمل الجهاز المناعي في حماية الانسان وقد نستخدم هذه الميكانيكية في العلاج المناعي لبعض الأمراض المستعصية، لكننا مازلنا نحاول أن نفهم ما الذي يجعله يحارب خلاياه الطبيعية أحيانا بدلا من الخلايا الغريبة؟ ومازلنا نحاول أن نعرف الاختلاف في تقبل الأعضاء المزروعة من شخص لآخر رغم التوافق المبدئي الملحوظ في التحاليل والبروتوكولات الطبية المتبعة. قد نعرف المسبب الوراثي لأحد أمراض الدم المعروفة ونستخدم العلاج المطلوب لكننا لا نزال نقف متسائلين عن الاختلاف في الاستجابة للعلاج والتطور للمرض من شخص لآخر رغم أنهم يعانون من نفس المرض ونفس الطفرة. قد نعرف السياق الزمني للتطور اللفظي للطفل ونعرف التمارين اللغوية المطلوبة لتحفيز الكلام والتواصل، لكننا نجهل الكثير عن العلاقة بين المخ والتطور الكلامي أو اللغوي. قد نعرف التصنيفات المختلفة لطيف التوحد ونمارس بروتوكولات التدخل المبكر لكننا نجهل الأسباب وراء الاختلافات في الأعراض وفي الاستجابة للتدخل للمبكر. نعرف الشيء الكثير وما نجهله أكثر، ما يزال الإنسان في طفولته وشبابه وشيخوخته في صحته ومرضه يشكل لغزا يستحق البحث والدراسة.