على ضوء التطورات المتسارعة التي تجري على الساحة اللبنانية، منذ اغتيال دولة الرئيس السيد رفيق الحريري. ثمة دروس وعبر عديدة نستفيدها من الحدث اللبناني وتطوراته المتلاحقة. فالمسألة اللبنانية في كل مراحلها وأطوارها، هي عبارة عن تداخل وتشابك معقد بين الإرادة الداخلية بكل تنوعها وحساسياتها والعوامل الإقليمية بكل خلافاتها ونزاعاتها والحضور الدولي بكل ثقله وعقده ومتوالياته. فدائماً الأوضاع السياسية في لبنان، ليست وليدة عوامل واحدة محضة، وإنما تتداخل هذه العوامل مع بعضها لاعتبارات عديدة فتنتج استقراراً وأمناً، أو اضطراباً وتهديداً للسلم الأهلي. واغتيال السيد الرئيس رفيق الحريري بما يشكله من ثقل لبناني وعربي ودولي أعاد المسألة اللبنانية إلى مربعها الأول، وأضحت التطورات يومية وسريعة، وتبحث عن أفق حل يرضي كل الأطراف والعوامل المؤثرة في المشهد اللبناني. وعلى كل حال ما نود إثارته في هذا المقال: هو طبيعة العلاقات السورية - اللبنانية، لماذا نحن العرب لم نتمكن إلى الآن من صناعة نموذج وحدوي، قادر على مواجهة التحديات، ومحل رضا وقبول من كل الأطراف القوية والضعيفة في آن. لا شك أن ما يجري على الساحة اللبنانية اليوم من أحداث وتطورات يثير الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام. فلماذا ينبري اللبنانيون وبعدما يقارب ثلاثة عقود من التواجد السوري في لبنان، للمطالبة الحاسمة بخروج القوات السورية. ولماذا لم يتمكن السوريون من نسج علاقات وحدوية وطبيعية بين الشعبين، بحيث تكون الوحدة بينهما ليست شعاراً أو خطباً رنانة، بل وقائع اقتصادية وحقائق اجتماعية وإرادة سياسية متكاملة. فما جرى على صعيد العلاقة السورية - اللبنانية هو درس إضافي، على اننا نحن العرب بعد لم نحسن استخدام الجوامع المشتركة الكثيرة بيننا لخلق وحدة قومية صلبة ومتينة. حيث إن التجارب على هذا الصعيد عديدة، إلا أن النتيجة دائماً واحدة، الإخفاق والفشل على هذا الصعيد. فالوحدة بين الشعوب حتى التي تشترك في عوامل وجوامع واحدة، لا تبنى بالقسر والقهر والفرض والشعارات البراقة والوقائع المضادة لذلك. وإنما تبنى بالإرادة الجادة والفعل الايجابي المتواصل وملاحقة كل ما يضر بهذه الجوامع بصرف النظر عن حجم هذا التصرف أو تأثيراته. فالمنجزات الكبرى التي صنعها السوريون في لبنان، تلاشت في نظر بعض اللبنانين من جراء تراكم أخطاء وأغلاط صغيرة قام بها السوريون في لبنان على صعد ومستويات عديدة. فالوجود السوري أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، وبنى مشروع الدولة، وحافظ على أسس الوحدة الوطنية، ولكن، ومع كل هذه المنجزات التي ينبغي أن تحفظ للسوريين. إلا أن التدخل السوري في التفاصيل اللبنانية أضر بهذه المنجزات بعد ثلاثة عقود من هذا الوجود والتدخل. وهذا يدفعنا إلى القول: إن الشعوب العربية تتطلع دوماً نحو الوحدة القومية والوفاق العربي، ولكن هذا الإيمان بالوحدة والتطلع إلى إنجازها، لا يبرر ان بأي شكل من الأشكال التدخل الأمني والسياسي. فالجوامع المشتركة عديدة وعميقة بين الشعبين السوري واللبناني، ولكن هذا لا يعني أن يقوم الطرف القوي بالتدخل الفج في شؤون أحوال الطرف الضعيف. ولعلي لا أجانب الحقيقة، حين القول: إننا نحن العرب خسرنا جميعاً من وصول العلاقة السورية - اللبنانية إلى هذا المستوى من التأزم. وذلك لأن سوء التدبير السياسي والأمني، هو الذي يقود إلى تأزم العلاقات، مع وجود مشتركات عديدة وعميقة. إلا أن هذه المشتركات لا تستطيع التأثير الايجابي في ظل أوضاع سياسية وأمنية غير طبيعية. ذلك نحن بحاجة اليوم، إلى ممارسة النقد إلى أفعالنا وممارساتنا. فالخطأ والعيب الذي يقودنا إلى الفشل والاخفاق، ليس في النظرية الكبرى أو التصور العام، وإنما في الممارسات التي تتم باسم هذه النظريات والتصورات. فكلنا نحن العرب نحمل عن وحدتنا تصورات رائعة وتطلعات نبيلة. إلا أن تصرفاتنا وممارساتنا اليومية والعملية تزيدنا تشتتاً وتشظياً. فباسم الوحدة نمارس التجزئة بكل صنوفها وأشكالها، وباسم المصير المشترك نمارس القهر والقسر ضد بعضنا البعض، وباسم المشتركات نرعى وننمي الخصوصيات المضادة والمناقضة. فالعيب في كثير من الأحيان، ليس في الشعار والتطلع، وإنما في الأفعال والممارسات، التي تخلق وقائع وحقائق نقيضة للشعار والتطلع. من هنا فإننا بحاجة إلى ممارسة النقد لأفعالنا وممارساتنا، وذلك من أجل إنهاء هذه المفارقة العجائبية، التي تزيدنا ضعفاً، وتدمر الكثير من الاستعدادات النفسية والسلوكية الايجابية الموجودة في فضائنا القومي. فالجوامع المشتركة بين الشعب السوري والشعب اللبناني عديدة وعميقة وتاريخية. ولكن السؤال الذي ينبغي إثارته، لماذا وصلت الأوضاع بينهما إلى ما وصلت إليه. ولماذا يخرج الآلاف من الشعب اللبناني للمطالبة الصريحة بالخروج السوري من لبنان. والإجابة على هذا السؤال في تقديرنا، تتمثل في الآتي: هو تراكم الأخطاء أدى إلى خلق واقع موضوعي وذاتي، لا يرى في الوجود السوري، حافظاً للأمن، وعاملاً من عوامل الاستقرار، بل يرى نقيض ذلك. فيطالبهم بالخروج. وحينما تسأل أي مواطن لبناني يطالب القوات السورية بالخروج من لبنان، لا ترى في إجاباته تملصاً من الالتزامات القومية أو رفضاً للجوامع المشتركة التي تجمعه والشعب السوري. وإنما هي تلك الممارسات والأخطاء الصغيرة التي تراكمت عبر الزمن، فأوجدت واقعاً لا يطيقه هذا اللبناني. من هنا فإن العلاقات الايجابية بين الشعوب العربية، لا تبنى بالشعارات الكبيرة المجردة، ولا تشيد بالخطب واليافطات، وإنما هي تبنى بالوقائع والحقائق الصغيرة المرتبطة بمصالح الناس، وبالاحترام المتبادل وبصيانة الخصوصيات لكل شعب ومجتمع. لذلك آن الأوان بالنسبة لنا نحن العرب، وبعد هذه التجربة الأخيرة للعلاقة السورية - اللبنانية، أن نمارس النقد الشجاع تجاه ممارساتنا وأفعالنا التي تتم باسم الوحدة، وهي لا تصنع إلا التجزئة والتشظي. وهذا يتطلب منا التأكيد على النقاط التالية: 1 - إن الفشل والاخفاق الذي نعانيه نحن العرب على صعيد علاقاتنا الداخلية ووحدتنا القومية المأمولة، ليس من جراء العيوب الذاتية في الرؤية أو التصور أو النظرية. بل هو في تقديرنا يعود إلى حد بعيد: إلى الممارسة والفعل والخيارات العملية. فممارساتنا السياسية والاقتصادية مع بعضنا البعض لا تخدم مشروع الوحدة، ولا تنسجم والجوامع المشتركة. وأفعالنا المتبادلة لا تبني ثقة ولا تعمق جسور المحبة والمصالح المشتركة وخياراتنا العملية لا تستهدف الاقتراب والوحدة، بل الاستقواء ضد بعضنا البعض. فآن الأوان لنا أن نقول وبلغة لا مواربة فيها: إن أفعالنا وممارساتنا وخياراتنا العملية، هي المسؤولة عن تباعد العرب عن بعضهم البعض. وإن الخطوة الأولى في مشروع التصحيح، هي في ممارسة النقد لأفعالنا وممارساتنا. وبدون هذه الممارسة سنبقى نمارس التفتيت والتجزئة والتشظي باسم الوحدة والمصير المشترك. 2 - إن العوامل التاريخية والجغرافية والثقافية المشتركة، وحدها، لا تصنع علاقة ايجابية وانسجاماً في الخيارات والمشروعات. وإنما نحن بحاجة إلى زيادة وتيرة بناء شبكة من المصالح المشتركة. وذلك من أجل أن تبنى علاقاتنا على هذه المصالح المتبادلة، التي تخدم كل الأطراف. فالعلاقات العربية - العربية، لا تبنى بالتاريخ المشترك ولا بالجغرافيا ولا بوحدة النظام السياسي، وإنما بشبكة المصالح المتبادلة، التي تقدم ربحاً ملموساً لكل شرائح المجتمع. من هنا نحن بحاجة اليوم، إلى الإعلاء من شأن المشروعات الاقتصادية المشتركة، التي تبنى على قاعدة المصالح المتبادلة، وحدها المصالح المتبادلة الحقيقية والواقعية، التي تبني علاقات ايجابية بين الدول العربية. 3 - إن التطورات المتسارعة التي تجري في الساحة اللبنانية، تدفعنا إلى القول: إننا كشعوب ودول عربية، لا نستطيع مواجهة التحديات ومقاومة المؤامرات إلا بإصلاح أوضاعنا وأحوالنا المختلفة. والتطلع نحو الوحدة القومية والاندماج العربي، لا يعني بأية حال من الأحوال، التغافل عن حاجات أوطاننا، أو التغاضي عن إصلاح أحوالنا. إن إصلاح أحوالنا وأوضاعنا الوطنية، على أسس الحرية والعدالة والمساواة، هو من الخطوات الضرورية لإنجاز أي تطلع على الصعيد القومي والعربي. كما ان غياب مشروع متكامل للإصلاح الوطني، يجعل كل أوطاننا عرضة للمؤامرات والتحديات والضغوطات. فقوتنا الحقيقية في إصلاح أوضاعنا وتطوير أحوالنا، وليس في رفع الشعارات واليافطات الضخمة. وإننا لا يمكن اليوم، أن نواجه تحديات المرحلة في كل أقطارنا، إلا بالانخراط الجاد والحقيقي في مشروع الإصلاح الوطني، الذي ينهي الكثير من الاحتقانات، ويجيب على العديد من الأسئلة والتحديات. وإن المسؤولية القومية والأخلاقية، تدفعنا إلى ضرورة ممارسة النقد لممارساتنا وأفعالنا من مختلف مواقعنا، التي لم تفض إلا إلى المزيد من الضعف والتلاشي. فالخطوة الضرورية والملحة اليوم، هي ممارسة الإصلاح، على قاعدة نقد الفعل السياسي والأيدلوجي والاقتصادي، الذي أوصل واقعنا العربي إلى الحضيض، وجعلنا جميعاً تحت رحمة الضغوطات والمؤامرات التي تزيدنا ضعفاً واهتراءً. فآن الأوان بالنسبة لنا جميعاً، إلى ممارسة النقد لأفعالنا، وذلك من أجل تصحيح أوضاعنا والخروج من ربقة الضعف والاهتراء.