هناك نوع من البشر غريب عجيب! كلما زل قال: أنا بشر، ويعيش كيفما تشتهي نفسه، ويعطيها سؤلها أياً كان وينسب ذلك لكونه بشراً ضعيفاً، وذا طاقة محدودة في السيطرة على حاله، وأنه ليس بكامل، ويتعلل بكونه من بشر خطائين، ويتناسى أن خير الخطائين التوابون، ويتجاهل الحكمة من وجود شرائع سماوية، وأنبياء ورسل، بل وقد يلمح بذلك لظلم فكرة الحساب من عقاب وثواب –والعياذ بالله- مادام يعتقد أنه سيطال من لا حول له ولا قوة فيما أمضى من أمور، وفيه إنكار لتكريم رب العالمين لابن آدم عن سائر من خلق على الأرض، وتنكر لنعمة العقل، الذي بعدله تعالى رفع القلم عمن فقده بالكلية أو جزءاً منه وأقصد صغيراً أو نائماً. .. هذا الكلام لا يحمل مبالغة أو تقريعاً لكنها الحقائق، وبزعمي أن من لا يُعملون العقل ولا يحكمونه في جل أمورهم ليهديهم للحق والصواب وسبل الرشاد فهم منكرون لنعمة عظيمة منحوا إياها ويجب صونها وألا يغفلوا عن كونها تستوجب الشكر، وبالعقل يرضخ لهدي الأوامر السماوية الداعية للطاعة والانصياع لرب الأرض والسماء، والعبادة والولاء، والنظر لهوى النفس ومخالفته تحقيقاً لغاية العبودية والانقياد له تعالى. فما أرسل الله للبشر رسلاً منهم يدعونهم إلا لكي لا يكون لهم حجة بعد الرسل. ففي الإيمان راحة، وفي كمال الطاعة والعبودية لله وصول لأعظم وأهم الأهداف الدنيوية والأخروية، وفي الركون للعقل سمو وتميز ورفعة. من كان بشراً بالأفعال والأقوال، وأعطى بشريته حق قدرها لا ينسب لها ضعف الإرادة وخوار العزيمة، والسقوط والانحدار، والأخطاء غير المسؤولة بلا توبة، وتكرار الذنب بلا كلل ولا ملل ولا اتعاظ وإقلاع عنه. ومن يعتقد في الحرية المطلقة راحة فليتفكر في عربيد لم يكتف من ملذات ومع هذا لم يحصل على سعادة وربما انتحر، وحر استعبدته شهواته وذُل لأجلها، وكافر يعيش شقاء، وضعيف إيمان بلا راحة، تلك كلها شواهد وعبر تؤكد أن لا حياة تستقيم بلا هدف تعبدي سامٍ، وبه توضيح لمعنى "بشراً مسؤولاً" وآخر المطاف حق له أن يصير إلى جنة أو نار خالداً فيها بما قدمت يداه. وله نقول: من قال لك أن تأمن الدنيا وتؤمن لها، ابقَ إذاً في أغلالك، فأنت مع الدنيا صرت كذاك الإنسان الساذج في روايات الأطفال مع أنك كبير بالغ، قصتك معها مثل الشخص المسالم الذي أغواه أسد ومناه بالسند إذ ما فك أسره من المصيدة، ففكر وما أسوأ ما قرر، أطلق سراح الأسد ليصير هو أسيره، وفي النهاية استقر في معدته جزاء حسن صنيعه معه!. كذلك أنت كنت ذلك الشخص الطيب الكريم مع الدنيا، وأعطيتها أماناً لابد لها أن تنقض مواثيقه، فالدنيا كالأسد خلقت هكذا مفترسة ذات مكر ودهاء، عند اليأس تجرب الهدنة، والأمان يعني البطنة وتذكر الجوع وتنسى ما سوى ذلك. الدنيا تريد من يحتال لها، ويقابل قوتها وإغراءها بالحنكة والحكمة، إذ كم من أناس عاشوا فيها ولم ينالوا منها إلا أكوام ذنوب، وخرجوا منها يجرون أذيال الخيبة والندم ولقوا سوء المنقلب، ذلك لأنهم أحبوها وخطبوا ودها برضا الله، وسيلقونها يوم الحشر العظيم عجوزاً شمطاء. .. حسبي وحسبكم أن نعلم أن الدنيا مسار وليست دار قرار، الدنيا لا تدوم لأحد ولو دامت لمن قبلنا لما وصلت لأزماننا. .. الدنيا دار لجمع العزال للدار الآخرة، فلا تدخر جهداً في أن تجمع من العزال أنفعه من استغفار وأعمال صالحة. .. وأذكركم ونفسي أن شهر الخير والرحمة والمغفرة بدأ يلملم عزاله ويوشك على الرحيل عنا، فهل أكرمنا ضيافته وأحسنا وداعه، وقبل آخر الساعات والدقائق هلا راجعنا أنفسنا وحاسبناها حساباً عسيراً مادام الزمان والمكان قابلين للمراجعة والتدقيق والتعديل والتبديل قبل الحساب الأخير الذي لا رجعة بعده، ولنسأل الله ألا يجعلنا ممن سيقولون ربنا أرجعنا نعمل صالحاً. ومضة: صدق من قال: (بالأمس قلنا "أهلا رمضان" واليوم نقول "مهلا رمضان")، فعسى أن يغدو في الأمر خيرة حين تغسل أعمالنا فيه ذنوب عام، ونكتب من عتقائه –بإذن الله-.