الذي استحث هذا الموضوع من مكمنه الغائب وزاويته المنسية وركنه القصي هو أنني كنت أقلب في كتب من الذكريات وفي دواوين بعض الشعراء وفي مواقع الانترنت، تلك النوافذ بكل أنواعها التي تزاحمت فيها إبداعاتهم وبراعتهم وتسابقوا للقمة، لأتصفح بعض ما كتب شعرا ونثرا وخواطر، فوجدت أن العينة العشوائية التي كنت أتصفحها، عبرت عن مكنون أصحابها ونشرت كل أحاسيسهم، دموعهم دماءهم جراحهم لوعتهم والسهر حزنهم والقهر، جالوا في الحضر والسفر وعانوا من فراق الغالي والجراح ووصفوا الأوقات الملاح، تغزلوا في كل الألوان البيضاء والسمراء حتى الليلة الظلماء أو القمراء، مدحوا وأثنوا ورثوا وفخروا وشملوا كل شيء. لقد نزفوا دما على فراق المحبوب وهلت المدامع على الصداقات والإشادة بالوفاء والتحسر من الجحود وكل ما بينهم من مكونات الوجود، ولكن وكلي أسف لا يوجد من بينها عبارة وفاء للأم. لقد نسوا في طريقهم نحو التنافس المحموم شيئا مهما في حياتهم، إنها [الأم]. بعضهم لم يوجد له دمعة واحدة ذرفت أو عبارة انزلقت ولو عن طريق النسيان و الخطأ، شمعة أشعلت في ماضي وأيام تلك الأم. بكيت ويشهد الله على ما أقول بكيت، والألم يعتصرني من سوء ما خاب ظني لما تحريت فما وجدت وما لقيت ولا رأيت. منتجات كثيرة وأوراق عديدة وقصائد طويلة مديدة في بعضها تزلف وأخرى توسل وتسول وربما تملق، ودموع لا حرارة لها في رثاء لم يتعد حنجرة ولم يوصل إلى مفخرة، وكل هذا لم يجد أو يتكرم شاعرها ببيت واحد يتذكر أن له أما، وجودها سعادة وصدرها غذاء ووسادة وحنانها وبرها وطاعتها عبادة. لم أجد في عينة من العينات ليست بالقليلة إشارة عبر فيها صاحب الإحساس عن أمه. لماذا تجاهل العديد من الشعراء ذكر الأم والوالدين عموماً؟ وما الشيء الذي استطاع أن يختطف كل لب الشاعر واهتمامه ويفرغ ذاكرته من ذكرياته وواقعه، وينسي المبدع في عطاءاته الكثيرة ولو التفاتة ولو بسيطة لعلها تنفلت منه رشة معطرة من فيض إحساسه الغزير تجاه أمه في رائحة الوفاء وشيء من الذكريات، ذلك الإحساس الذي نهبه المحبوب الذي في الغالب لا يبالي به ولا يبادل الشاعر مشاعره إن كان حقيقياً وليس من نسج الخيال، وإنما هو حب من طرف واحد، وصدود وانصراف وفراق وجحود وأبعد من ذلك. ما السر وراء تجاهل الغالبية من الشعراء للتعبير عن مصدر الأمن في الطفولة والعناية والرعاية والحنان، ولماذا لم ير أثر للحنين لذاك الصدر الحنون الذي غادره طفل أبدع بعدما كبر بسبب الدعم وفيض المشاعر من أمه ورعايتها واهتمامها. ولا أريد أن أعرج على ما هو أسوأ من التجاهل وهو هجاء الأم من قبل بعض الشعراء، فذاك لعله منحول أو كلام لا يقبله الراوي ولا يتلقاه قلب ولا عقل ولا يصدقه بشر. أدري أن بعض من يعز علينا ويحتل مكانة في نفوسنا قد نعتبره جزءا من الروح فيمتزج معنا وينصهر في الأحاسيس والمشاعر حتى النسيان والغفلة. ننساه حتى في هدية العيد والتعبير عن محبتنا له، ومن ذلك الأم وهي أغلى ما يمكن الكتابة عنه. لكن هذا ليس مبررا مقبولا. ما أعذب أن تقرأ للشاعر قصيدته في أمه، عندما يبوح بها من واقع لا يتخيله وبحروفه وعبارات تنضح الشهد وتتذوقه منها، تعرف من مضامينها ضياء الولاء والتصادق مع الشعور، حيث يأتي طواعية غير متكلف. هذه قصيدة الشاعر الأمير سعود بن بندر، رحمه الله، أجدني مأسورا بها مسرورا منها، رممت ما انهدم من اليأس من وجود كم من القصيد الشافي والشعور الكافي. وعندما يندمج مع مضامينها المتلقي تبرأ جراحه ويتنفس الصعداء ويقول ليت الشعراء لا ينسون أمهاتهم في زحمة الخيال والحب الزائف. لا كنت أنا لا كان يوم زعلتيه وشلون أبا أرضي خالقي لا حزنتي كله ولا تكدير خاطرك ما بيه كل يهون رضاه عندي سوى أنتي يا اللي وجودك فارغ العمر ماليه لا تهت في ليل الأحاسيس بنتي لولاك عمري ما تساوي لياليه عيشة خفوقٍ في صميمه سكنتي أنتِ فخر منشاي مرحوم بانيه غير إنك اللي في الطفولة حضنتي ولولاك ما دورت فالرجم عاليه لا من ونى حيلي نصحتي وعنتي الله يديمك لي ويقسم لياليه بيني وبينك قبل ما أقول كنتي وجزالة القصيدة يشمل كل عناصرها وحروفها وانتقاء عباراتها السهلة والجزلة المؤدية للمعنى بكل رقة، خالية من الجفوة متعمقة في العذوبة والحنان واللطف، فيها لمسات الوفاء والبر والعطاء المتميز، تلامس الأعماق وتدمع الأحداق وترق لها المشاعر وتحلق في معانيها المشاعر. فيها عمق شعوري مستجلبة للحس الصادق مع الأم من نبل هدفها وتشرب قائلها لإحساس وتقدير مكانة الأم، من خلال استشعار فضائلها في نفسه وتوجيهه وسر سعادته وقيمة وقته معها وبها، وقبل ذلك كله جعل كل هذا المحبوب المقدر عنده، ينطوي تحت محبة أعمق وأكبر وهي محبة الله خالقه والمنعم عليه فهو يطلب رضاه من خلال محبتها وطلب رضاها. هذا الامتزاج بين مضامين القصيدة وصورها الفنية التي تأخذ كل الشاعر الطفل والشاب ومن ثم الحياة بكلها وبكاملها بل وجغرافية المكان جعلت الفواصل في ثنايا القصيدة وبين أبياتها معدومة كليا لتكون وحدة واحدة ونسيجا متوازنا مفرحا ومبكيا ومسعدا ومحزنا ومؤلما ومريحا ينتهي باحترام الشاعر وتقديره لذاته ووضع كلماته في مكانها الصحيح باعتراف المتلقي الذي لن يقوى على كبح جماح أحاسيسه التي تثير مدامعه وتستحثها على المشاركة. ثم يردد ألاف المرات - رحمه الله رحمة واسعة - جزاء هذا الشعور. ولعل هذا البيت يبين لنا تجاوب الأم مع ولدها بندر ومبادلته الإحساس بالوفاء والحنين حيث تقول: جرحي على سعود ما ينفع به الطبي وشلون أبسلى وهو دايم على بالي الله يجمع الأوفياء في دار البقاء في جنات النعيم. ويذكر الشعراء ما نسوه في غفلة وانبهار الإنتاج وبريق الأضواء والتنافس عليها.