من بين الدموع والدماء والآلام والأنقاض ستبنى الأسوار المنيعة التي تستعصي على عودة الحالمين من الطغاة.. حيث لا مكانَ لتشوهات عقود من الطغيان والفشل والانحطاط.. سيرحلون حتماً.. سيرحلون وللأبد. وعندها فقط سنرى بلاداً أخرى طالما حلمنا أن تكون سورية للعرب وخاصة لأبناء الجزيرة العربية، ليست مجرد قطر عربي آخر.. إنها الامتداد الطبيعي لجزيرة العرب. أول بلدان الفتح العربي الإسلامي. عاصمة الدولة العربية الإسلامية التي تمددت على مساحة نصف العالم المأهول منذ أكثر من 13 قرناً. في معظم مدن سورية التاريخية وبلداتها يرقد رفات صحابي شريف، أو قائد فذ أو شاعر عظيم. التعددية في بلاد الشام ظاهرة لا تخطئها العين.. طالت الانسان والشجر والحجر.. من ضفاف الانهار إلى تخوم الصحراء.. من رؤوس الجبال إلى سفوح الأودية.. من شواطئ البحر إلى أرض الرماد.. من البداوة إلى الحضارة.. من فروسية الصحراء إلى رقة الفل والياسمين.. من روافد الفرات إلى العاصي.. من ينابيع الصفا إلى زرقة البحر الغافي .. من تخوم الجزيرة إلى جبال الساحل.. من بيادر القمح في سهول حوران إلى كروم الجبال التي تندلق بسخاء وبذخ وهي تمنح قطرة الحياة. سورية نفحة عربية. سلة قمح رومانية. تنوع يشعل أحداق الحياة. سفر يفتح للتاريخ فسحة التأمل من اليرموك إلى حطين.. من الأمويين إلى الحمدانيين إلى الايوبيين.. ومن العثمانيين إلى القوميين العروبيين.. ومن ميسلون إلى عهد الانتداب.. ومن الثورة الكبرى إلى بواكير عهد الاستقلال.. ثم إلى خمسة عقود من القلوب الغليظة والأحذية الغليظة والنفوس الضيقة والتوقف الذريع. هذه سورية في خاطري. ذاكرة لم يصنع تاريخي القصير ملامحها.. صنعتها غواية الحرف والمعنى والأحلام العروبية الصافية.. وانتهكت صورتها وقائع الأيام القاسية. زرتها مرات متباعدة أبحث عن ظلٍ وكرمة.. فإذا الصور تنتهك والأحلام تتبعثر.. والتشوه يزيد حيرتي في مصير أيقونة بلاد العرب أوطاني.. من درعا إلى عين العرب، ومن عفرين إلى نواعير العاصي، ومن جبال الدروز إلى قرى الأكراد ومن جزيرة أرواد إلى طرطوس، ومن قلعة الحصن إلى شاطئ مسكون بالقلق والانحسار.. تترى الصور ولا تتوقف المعاني عن الانثيال. يتوقف نبض المدن إذا غادرت ملامحها الأثيرة. لا شيء سوى خوف يتدثر بقتامة المازوت وأرتال العسكر المجندين.. والعيون التي ترصد في كل زاوية ملامح العابرين. جريدة الصباح في مقهى الهافانا في دمشق سوداء مرة.. بمرارة تهافت صحف لم تغادر مواقعها منذ خمسين عاما. يختفي الساخر المتمرد محمد الماغوط عن مقهى الشام.. يترك فقط أعقاب سجائره المتناثرة على طول الطريق.. يجر قدميه الثقيلتين ليودع عالما ثقيلا لم يعد يطيقه. في مكتب صديقي الناشر تتحول المهنة إلى حسابات أمنية قاتلة للإبداع. لا يفصل فيها إلا قلم غليظ يجيز ويمنع.. ظله أثقل وأكثر رعباً من واقعه الهش.. تذبل مدينة الياسمين حين تغادر أحلامها وحريتها.. ليبقى فقط طنين الممانعة الجوفاء المخادعة.. الخبز اليومي للغباء السلطوي. أبحث عن ملامح مدينة كانت تُغني للعشاق. يا نزار لم تعد دمشق تمنح لزوارها الياسمين.. "بردى" خيط من وحل أسود.. "الغوطة" تشوهات وعشوائيات قضمت رئة المدينة.. لم تتريف المدينة بل عسكرتها هجمة المجندين البؤساء والنازحين على هامش الحياة بحثاً عن ما يقيم الأود.. ريف المدينة لم يعد سلة غذاء وخبز وهواء نظيف.. أحزمة الفقر لا تزرع الياسمين.. إنها تزرع الشبيحة والأيدي الغليظة والمهن الوضيعة!! تتورم أيدي وعيون الطغاة بحجم سطوة جلاوزة التعذيب وأقبية السجون السرية ومراكز المخابرات التي سحقت آخر زهرة في مدينة الياسمين. في إحدى ضواحي دمشق اكتشفت كربلاء جديدة. السيدة زينب، ساحة تضطرب فيها أوجاع التاريخ وأحلام الموجوعين.. باحثين عن المدد.. والمدد منقطع إلا من قوافل الغرباء تجر أذيال البؤس والشقاء.. لا شيء هناك سوى الغبار والدينار. وحده الأموي.. استعصى على رياح التغيير العاتية. تعددت مهارات من صنعوا التاريخ.. حفروا على جدرانه وسقفه وأعمدته وبين أروقته أعظم الوصايا والآثار التي تلتصق بالنفوس الرطبة لتدهش العالم مرة أخرى بشام يولد من بين الانقاض. تلطمني ملصقات الصور.. في كل زاوية في كل سيارة أجرة أو حافلة.. في كل مطعم أو مخبز أو دكان صغير.. على كل جدار ثمة ملصق وعلى كل هامة ثمة عبء من شبحه.. هذا الموسوم بالبقاء قائداً للابد. يرحل ولا ترحل أبدية الاحزان وملامح الطغاة.. هل يصدقون أم يدرأون الشبهات بالملصقات؟! وغير بعيد.. في المالكي، تتزاوج سلطة القهر برؤوس المال والأعمال.. لافتٌ هذا المقهى الجميل بمضيفاته الحسناوات.. تعبير صارخ عن مرحلة القهر المعمم والثراء الفاحش والفقر المدقع. وكما تصنع المدن عناوين بقائها.. تزرع مراتع خاصة تعبر عن تمزقها وانحيازها. في عين العرب، حلمت أن أرى الضيعة تتفجر ينابيع صغيرة في حقول التين والفستق والزيتون.. أكواخ الطين البائسة في أرض يغزوها الجفاف بين الحين والآخر لا تقارن بقرى الضفة الاخرى من السور الشائك حيث القرى التركية التي لا تبعد سوى عشرات الامتار. لا تكاد تميز بين كردي أو عربي.. سوى عندما يخاطب الأول الكرد بلغتهم، حينها تتعطل لغة الكلام لتخاطب عيناي في الأسى أعينهم. أصدقائي أسماؤهم صالح وعمر وعبدالرحمن، وابناؤهم لاوند وجافا وتشيفين.. ذكرتهم بأن العروبة ليست استرقاقاً بل ثقافة تتسع لهم ولسواهم.. دون أن تنال من حقوقهم او تهمش مكونهم. اكتشفتُ ان القرية البائسة التي أمضيت فيها ليلتي (كل تبا) أو (إكليل التل) تعاني حتى من مصادرة اسمها لعروبة مأزومة جمعت بين الاستبداد والاخضاع والمصادرة. كراهتهم ليست للعروبة بل لمن جعل العروبة معبراً للظلم والالغاء. كراهتهم للنظام ليس لأن الهوية العربية عنوانه، بل لأنه جعل الحياة مأزقاً كبيراً لكل السوريين.. ومن عين العرب الى السويداء. في إحدى قرى الدروز أمضيت ليلتي في ضيافة أحدهم. سمة المحافظة الشديدة لا تغادر تلك القرى. محاولاتي للاستفراد ببعض شبابهم لاكتشاف المعمى في حياة ومعتقد وفكر الدروز زادتني يقينا أن الحواجز الصلدة تضفي على المسكوت عنه ابعادا لا تمت أحيانا للحقائق بصلة. شاركتهم ليلة عرس أهازيجه إلحاح قوي ودفين لمجد بني معروف ومقاومة مستعمر معروف. عرسهم أهازيج تمجد سيرة آبائهم واجدادهم وكأنهم بهذا يعوضون بعض انكفائهم وعزلتهم. يمر هذا الشريط سريعا بينما تعيش سورية فصلا فارقا في أحداث التاريخ الكبرى. تأبى بلاد الشام إلا أن تكتب تاريخ العرب في كل مرة تستعيد فيها ذاتها المطمورة تحت وحل الاستبداد والاستعباد.. يحمل العرب الاحرار وحدهم عبء مقاومة تنظيم عصابي لا نظير له في بشاعته وقمعه ودمويته. بعد كل هذه العذابات والتضحيات لن يعود في سورية مكان للمؤبدين. لن تعود تلك اللغة الميتة والملصقات الفجة والدعاوى الفاجرة تطل برأسها في كل شارع أو زاوية أو صحيفة. إنها القطيعة البائنة مع مسلسل القهر والقمع والاستبداد. من بين الدموع والدماء والآلام والانقاض ستبنى الأسوار المنيعة التي تستعصي على عودة الحالمين من الطغاة.. حيث لا مكان لتشوهات عقود من الطغيان والفشل والانحطاط.. سيرحلون حتما.. سيرحلون وللابد. وعندها فقط سنرى بلادا أخرى طالما حلمنا أن تكون. اعذروني لم أعد أملك سوى ذكرى عابرة على صفحة زمن مضرج بالدماء.. لا أملك سوى الحلم.. وهو يطأطئ رأسه خجلًا أمام هذه التضحيات الكبرى..