على كتف الذكرى يطيب لنا المقام كلما أزعجنا الحاضر، وهو حق مشروع للجميع، ولا يكون مضراً إلا عندما يتدخل الشعور النفسي الخاص بذكريات معينة ليصبح حاكما منهجيا على التفكير وسائر طرق العلم والحياة. إن الخطاب الإسلامي المعاصر يعيش بكل طاقاته مشكلات القديم التي تتحكم فيه بشكل مذهل، ترتب أولوياته وتصوغ خياراته وتفكيره، وهي بذلك تحجزه داخل نطاقها الضيق الذي -ربما- كان صالحا في وقته لكنه غير مجد في وقتنا المعاصر إن لم نقل إنه يصبح مضراً بشكل أو بآخر عندما نخرجه بشكل متعسف من سياقه الزمني ولحظته التي عاشها. وقضية التعلق بالقديم قضية إنسانية عامة لا تختص بالمسلمين المعاصرين، بل تصل لدى بعض الأمم إلى عبادة الخرافة وتأليه الأسطورة، ولدينا شيء من هذا وشيء من ذاك، والإمام الرازي يؤكد ذلك بقوله : «ومن القضايا الغالبة على الأوهام أن كل ما هو أقدم فهو أكمل وأتم»، وهو أمر يتكرر بأشكال متعددة في مجالاتنا الحيوية، ولكنه يكون أكثر خطراً حين يدخل في توجيه بوصلة المرجعية الدينية والفهم الفقهي أو الشرعي عموما، وعبارات مثل «ما ترك الأول للآخر شيئا»، «ليس في الإمكان أبدع مما كان» و«الخير في اتباع من سلف والشر في ابتداع من خلف» ونحوها، هذه العبارات رغم المغالطات الشرعية والعقلية التي تحتوي عليها تمارس نوعا من التكريس لمفهوم مركزية القديم. إن مركزية القديم وحضوره وسلطته القوية على الذهنية التقليدية بشتى أشكالها وانتماءاتها، شكّل ولا يزال أزمة خطيرة مارست بشكل طويل ومنظّم تشويه صورة الإسلام الحقيقي وتغييب مركزية النص وسلطته لحساب مركزية القديم وسلطته. ولئن كانت مركزية القديم آلية غير علمية وغير ذات جدوى فإنها رغم ذلك قد أدت إلى ضمور آليات مهمة في تنمية وتفعيل النص وفي فهم الواقع والتفاعل معه بحيوية، كآلية العقل وآلية التجديد والابتكار ونحو ذلك. إن الإحالة إلى القديم أشبه ما تكون بصناعة الأساطير والتعلق بالخرافات، ذلك أنها إحالة إلى غير محدد بل هي إحالة إلى عماء، فهي أشبه ما تكون بالأسطورة التي لم يثبتها نص ولم يدل عليها عقل، إنما توارثها الناس وطال عليهم الأمد فقدّسوها وجعلوها مركزا في التفكير وآلية ثابتة له. لمركزية القديم التي نتحدث عنها تجليات متعددة تحتل أماكن بارزة على طول خارطة الخطاب السلفي ومنعرجاته، تجدها بارزة في التأصيل العلمي على مستوى التنظير الفكري في العقائد والأصول، وعلى مستوى التقعيد الفقهي والممارسة الفقهية، مرورا بعلوم التفسير والسير والتراجم، وانتهاء بالعبارات التي يتداولها الأتباع الصغار في مباحثاتهم وحلقاتهم، وهو ما سنحاول تسليط الضوء على بعضه في هذه العجالة. إن التنظير لمركزية القديم على المستوى الفكري كان يعتمد بشكل كبير على ضرورة «التميّز» عن المخالفين الذين يسمون تراثيا «أهل البدع»، وهي ضرورة أحوج إليها الصراع التاريخي حول أحقية التفرد بتمثيل الإسلام بين فرق وطوائف المسلمين، وقد حاولت كل فرقة التنظير علميا ومنهجيا لمركزية «قديم» ما، تقدسه وتصل به للتميّز الذي أرادته، وقد توصلت كل فرقة لما يرضيها، فتمثلت مركزية القديم وسلطته لدى الشيعة في «أهل البيت» الذين جعلت مرجعيتهم وسلطتهم «موازية» للنص وللوحي، وليست تابعة له ومحكومة به. وقد سلك المذهب السني لدى كثير من فرقه ذات السبيل، لكنه اكتشف مرجعية أخرى تتمثل في «السلف» أو في «فهم السلف» وهي عبارة فضفاضة بما يكفي لتفصلها كل فرقة حسب مقاسها، لأنها تحوي مغالطات كثيرة تفترض أولها أن هناك سلفا واحدا لا أسلافا متعددين، ولذا فقد جرت محاولة الهروب من أسئلة منهجية ملحة من مثل :من هم السلف ؟ومتى كانوا مرجعية؟ هل قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أم بعدها؟ فإن كانوا قبلها فهل لو اختلف قول السلف وقول النبي صلى الله عليه وسلم لكان لزاماً علينا أن نجمع بين القولين!؟ وإن كانوا مرجعية بعد وفاته، فكيف أنزل سبحانه وتعالى {اليوم أكملت لكم دينكم ...} ما يعني بالضرورة أن فهم السلف ليس من الدين. ثم هل السلف هم كل من مضى؟ أم الصالح فقط؟ وبأي اعتبار نزن الصلاح؟ هل باعتبار الإصابة أم باعتبار الإخلاص؟ وهل هذا الميزان من السلف أم اخترعناه نحن؟ في سلسلة من الأسئلة الملحة التي لم تلتق بإجاباتها المقنعة بعد، وهي أسئلة تعبر عن إشكاليات حقيقية تلامس هذا الوهم الذي أصبح لدى البعض حقيقة مسلّمة وغير قابلة للنقاش!. ثم إن مثل هذا الادعاء للمرجعية مبني على المغالطة السابقة، التي تفترض أن السلف لهم منهج واحد وطريقة واحدة، بينما نحن نجد أن بعض الصحابة مختلفون متباينون وإذا كان هذا في الصحابة فما بالك بمن بعدهم !، وهذا حديث طويل ربما عدنا للتفصيل فيه لاحقا. والخلاف حول السلف كمرجعية كان حول «إجماعهم» على نتيجة واحدة من خلال مناهجهم المتعددة، وهو ما لم يحصل إلا نادرا وفي مسائل قليلة معدودة كانت الحجة فيها النص، ثم يأتي إجماعهم تبعاً له فقط، وقد قال أحمد بن حنبل «من ادعى الإجماع فهو كاذب». الفرق بين المذهب الشيعي والسني في هذا، أن الأول قد جعل القديم موازيا للنص ومماثلا له، والثاني جعل القديم مقيّدا للنص وحاكما عليه لا محكوما به، فلا يمكن للنص أن يدل على الحق إلا من خلال السلف ولا يرشد إليه إلا عبر طريقهم. لقد سلكت شتى الفرق منهجية واحدة تقريبا في إثبات مركزية القديم وحجيته، تمثلت في «الخلط المنهجي بين الفضيلة والحجية». لقد كانت النصوص الشرعية مليئة بالثناء على أهل البيت وعلى الصحابة، فاستعمل ذلك الثناء لاحقا لإثبات أن هذا وذاك يمثلان مرجعية شرعية، لذا فإن فك الارتباط بين الفضيلة والمرجعية يشكل نقطة أساسية في نقض مركزية القديم وحجيته، وإثبات أن هناك فرقا كبيرا بين فضائل فئة أو زمن أو شخص أو مكان، وبين كون ذلك يجعله حجة ودليلا ومركزا للفكر والفهم والعمل، يقاس الانحراف وعدمه عليه، ويحسب الصواب والخطأ بالموقف منه. ولتوضيح الصورة سندخل قليلاً في تضاعيف بعض التقعيدات العلمية في بعض العلوم الشرعية لنضع إصبعنا على الشواهد المباشرة للفكرة التي نطرحها هنا، ففي علم التفسير نجد مركزية القديم تظهر في قاعدة «أن الآية إذا كان فيها تفسيران للسلف لم يجز إحداث تفسير ثالث» قال في المسودّة ص 329 (إذا تأول أهل الإجماع الآية بتأويل ونصّوا على فساد ما عداه، لم يجز إحداث تأويل سواه، وإذا لم ينصّوا على ذلك فقال بعضهم : يجوز إحداث تأويل ثان إذا لم يكن فيه إبطال الأول، وقال بعضهم : لا يجوز ذلك كما لا يجوز إحداث مذهب ثالث، وهو الذي عليه الجمهور ولا يحتمل مذهبنا غيره)، وقد كرر هذا القول كثيرون من قبل ومن بعد، منهم أبو الحسين البصري المعتزلي في كتابه المعتمد وغيره. ومع منافاة مثل هذا القول للنصوص التي تأمر الأمة بتدبر القرآن وتصفه بأنه هدى وبيان وشفاء، ولا أحسب أن دعاة مركزية القديم يستطيعون القول بأن القرآن لم يعد كذلك، أو أنه بحاجة لغيره ليكون كذلك، ومع أنه كلام الله الذي لا تنقضي عجائبه كما جاء في الأثر، إلا أن سلطة القديم استطاعت التغلغل في بنية علم التفسير بمثل هذا المدخل. ثم إن هذا القول يعني ضرورة نضوب معاني النص القرآني واستمرار وتدفق معاني التفسير البشري له، وهو ما يقلب المسألة رأسا على عقب، حيث يجعل المطلق الإلهي مقيدا، والمقيد البشري مطلقاً، ويحول الناقص كاملاً والكامل ناقصاً. أما في علم الفقه الذي يشكل مركزا مهما في علوم الشريعة، فإننا نجد البعض يكثر الاغتباط بمقولة أحد الأئمة «إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام». وقول البغدادي (لو اختلفت الصحابة في مسألة على قولين وانقرض العصر عليهما فإنه لا يجوز للتابعين إحداث قول ثالث) الفقيه والمتفقه 1/435 كما يمكن رصد هذه الظاهرة في كافة العلوم الأخرى كعلم أصول الفقه في أبواب متعددة منها ما يتعلق بالعادات، وفي علم الرجال في مباحث تعديل الرجال وتجريحهم، حيث يتم التفريق في بعض العلل كالتدليس والجهالة بين المتقدم من الرواة والمتأخر دون مستند علمي صحيح.