تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تلقائية الاندفاع هي مصدر المعرفة والإبداع
نشر في الرياض يوم 11 - 03 - 2012

ليس ضوء الشمس الساطع المتدفق من أعماقها كنور القمر الباهت الذي يأتيه من خارجه فينعكس رغماً عنه على سطحه الأغبر ويصاب بالكسوف بمقدار انكماش الضوء الآتي إليه وليس من يعتمد على نفسه مبكراً كمن يبقى معظم عمره معتمداً على غيره يقاد فينقاد فيظل إمّعة يردد ما تلقاه متعلماً ومعلماً ولكن هذه الحقيقة الصارخة ما زالت غائبة عن مؤسساتنا التعليمية..
لقد تتبعت تاريخ الإنجازات البشرية في مختلف المجالات فوجدت أن فاعلية الإنسان في تحصيل المعرفة أو إتقان الأداء أو اكتساب المهارات أو في الابتكار أو الاختراع أو الإبداع لا تتحقق إلا إذا تأججت الفاعلية من الداخل سواء بدافع الرغبة الذاتية والولع بالمجال أو بدافع خارجي مزلزل يوقظ القابليات ويشعل الطاقات فيجعل الفاعلية تتقد لتصير القابليات منفتحة لاستقبال ما يرد إليها، ومتدفقه لإعطاء ما يراد منها..
إن مبدعاً اقتضى إبداعه من البروفيسور ليون إيدل كتاباً في أربعة مجلدات وأعقبها بكتاب آخر هو الكتاب الثاني في سلسلة (أعلام الأدب الأمريكي) وهو ليس سوى دارس واحد من عشرات بل مئات الدارسين، إن مبدعاً بهذه الضخامة لايمكن أن يكون مقالٌ كهذا سوى إشارة خاطفة نحو عالم زاخر بالريادة والإبداع ، والتفرد والإنجاز
إن غياب هذه الحقيقة الأساسية هو الذي أدى إلى تعطيل القابليات الإنسانية وضياع جهود التعليم سواء على المستوى الفردي أم الاجتماعي أم الإنساني..
إن تاريخ الإنجازات في كل المجالات يؤكد أن الازدهار الذي تتمتع به الإنسانية ما هو إلا إنجازات القلة المبدعة ولكن من المهم التأكيد على أن هذه القلة المبدعة لا تختلف عن الكثرة الكليلة إلا بفارق الاندفاع الذاتي، وتوفُّر الاهتمام التلقائي القوي المستغرق فكل فرد سليم يستطيع أن يكون مبدعاً أو على الأقل يصير ماهراً إذا هو بذل الجهد الكافي وواصل المثابرة وأجاد الانتفاع فالإنسان بما ينضاف إليه فهو إمكانٌ مفتوح لكل الاحتمالات فيصير من ذوي الفاعلية أو يبقى من ذوي الكلال حسب نوع ومستوى التعبئة التي تلقتها قابلياته فالنتيجة مرهونة بنوع وكمّ ما تتشربه الذات تلقائياً، وما تتلقاه قصداً تعزيزاً لما هو مستقر أو إعادة بناء بما هو منتقى لكن قابليات الإنسان لا تنفتح للتعبئة المختارة الممحصة إلا إذا توفرت الرغبة الكافية وكلما اشتد الولع اشتد تعطش القابليات فصارت أشد قدرة على الامتصاص والتشبع..
وسوف أقدم أمثلة من كل المجالات ومن مختلف المجتمعات تشهد كلها على أن الاندفاع الذاتي والاهتمام التلقائي القوي المستغرق هو شرط التحصيل في مجالات المعرفة وهو مصدر الإنجاز والإبداع وجودة الأداء في مختلف المجالات حتى في الصلاة تختلف صلاة الخاشعين عن صلاة الغافلين..
أما هذا المقال فهو عن المبدع الأمريكي هنري جيمس الذي تحرر مبكراً من التدجين المدرسي فقد توقف عن الدراسة النظامية عند المرحلة الثانوية وتفرغ لبناء ذاته بذاته انفلاتاً من القولبة المعيقة، وتحرراً من التأطير الخانق فحقق لنفسه معرفة نظرية واسعة وعميقة وأنجز إبداعات كثيرة ومتنوعة ليس فقط في مجال الرواية والقصة والمسرح وإنما أيضاً صار منظّراً في هذه المجالات وبذلك فإنه باندفاعه الذاتي وباهتمامه القوي المستغرق أصبح موضوعاً خصباً للدارسين وقدوة ملهمة للمبدعين، وقد اختار أن يبدع في الفن الروائي لأنه يعتبره كما يقول: «أكثر الأشكال الأدبية استقلالا ومرونة وقدرة» .
هكذا هرب من التدجين المدرسي الذي يصيب القابليات بالتلبك والخنق والانسداد، وانطلق في مجال هو الأكثر استقلالاً ومرونة وقدرة على تجسيد الموهبة الإبداعية..
لقد أضجره القعود البليد على المقاعد الدراسية وأحس أن قابلياته العظيمة لا تقبل الرتابة، وأن مواهبه السخية سوف تصاب بالركود والانطفاء إذا هو لم يتداركها فينقذها من الانسداد باإشغالها بما تهواه النفس ويستجيب للرغبة فأعلن بكل حزم وتصميم: «عليّ أن أدع نفسي تنطلق.. هكذا كنت أقول لنفسي.. هكذا قلت لشبابي الثائر المتحمس: انطلق يا فتى وقاتل بضراوة.. جرب كل شيء وافعل كل شيء وتخلّ عن كل شيء واستخلص كل شيء كن فناناً وكن مميزاً حتى النهاية» فلم يكن هنري جيمس من النوع الذي يستسلم للتدجين حتى النهاية فيذوب في القطيع وإنما كان شديد الإحساس بذاته فانطلق بمفرده وحقق ذاته ونال شهرة عالمية وصارت سيرته وإبداعاته ورؤاه في الفن والحياة موضوعات خصبة للدارسين والباحثين والمؤرخين والنقاد..
وهي نهاية مضيئة ذات دلالة واعدة لأنها متاحة للكثيرين لو كانوا يعلمون فرغم أنه من البداهات المعروفة أن من أشد الظواهر وضوحاً ندرة الإبداع في كل المجتمعات على امتداد العصور فليس مألوفاً أن يصير الإنسان مبدعاً إلا نادراً فالإبداع على المستوى الإنساني هو ظاهرة استثنائية غير أن ما يجب أن يدركه الجميع هو أن القابليات الإبداعية كامنة في كل الأسوياء تقريباً فتكوين قدرة الإبداع هو إمكانٌ مفتوح للكثيرين لكن جهل الناس بهذه الامكانية واعتياد الأفراد على تكرار ما تردده مجتمعاتهم، وتبرمُجهم بأنهم تابعون لا مبدعون وبأن عليهم الامتثال للبيئة والتماثل مع الآخرين وليس الانفصال والتفرد واضطرارهم إلى التلاؤم مع ما يستحسنه المجتمع ، والحذَر مما يثيره أو يلفت نظره استنكاراً فالإنسان كائن اجتماعي يخاف الرفض والنبذ والتهميش .. إن كل ذلك قد أبقى الإبداع نادراً بين الناس في كل مكان وفي جميع الأجيال.
إن هذا الواقع ينبغي أن لا يستمر فيجب أن نهجر هذا التصور المقعد ونحرر الأذهان منه، وننطلق في آفاق التفكير المستقل والعمل المنظم والإقدام الواثق والتطلع المنفتح والأمل الحافز فالقدرة الإبداعية هي ثمرة التحرر الذهني والعاطفي من القطيع والثقة بالنفس والتعبئة الملحة المنظمة بما هو منتقى من الأفكار والمعارف والمهارات فالفيضان لا يتدفق إلا بعد الامتلاء..
إن المبدع الأمريكي هنري جيمس لم يتوقف عن مواصلة الدراسة النظامية رغبة في الراحة أو تكاسلاً عن بذل الجهد بل انقطع ليكرس طاقته لتعبئة نفسه بالمعرفة المختارة ويهيئ ذاته للإداع ..
لقد كان يحمل همّ الإبداع وكان يرى أن فردية الإنسان توجب عليه أن لا يبقى إمّعة وأن يعيش الحياة التي يختارها هو وليس حياة تفرض عليه فرضاً فهو يستنكف أن يندمج في المجموع المستلَب، أو أن يذوب في التيار الجارف فقد كان منذ البدء يقول لنفسه: «لقد حان الوقت لأن تبدأ في عيش الحياة التي تخيلتَها» فترك مواصلة الدراسة النظامية ليعيش الحياة التي تخيلها لنفسه وأرادها لذاته وبهذا الإدراك العميق والوعي الحاد والجهد الموصول والمثابرة المضنية صار له ما أراد فأنجز (20) رواية و(112) قصة و(12) مسرحية لقد تحمل مسؤولية نفسه وبناها منفرداً بوعي حاد وتصميم حاسم ولم يترك قابلياته تمتلئ بما يريده غيره بل ملأها هو بما يريد وكما كتب يقول: «أن نضع الأمور في نصابها إنما يعني أن نفعلها بدقة ومسؤولية وبتواصل مضن» فالعبقرية صبر طويل والإبداع جهد لحوح، والتفرد عمل دقيق وكما يوضح هنري جيمس فإن عملية بناء الذات إنما هي عملية دقيقة وطويلة ومستمرة وممتدة بامتداد الحياة: «يتشكل مسار الحياة كله مما نأتيه من أمور، ومن تأثيراتها المتنوعة وهذا هو شأن سلوكنا وتبعاته أيضاً إذ إنه يؤلف كُلاً واحداً ومتواصلاً وملحاً على نحو لايمكن إشباعه» .
كان يحس في أعماق ذاته بنهم لايمكن إشباعه فراح يجري خلف هذا النهم يغذيه بقراءات منتقاة واسعة وعميقة ومتنوعة ومثيرة فغاص في مباهج العقل .. لقد أدرك أن التعلم ليس استظهاراً لبعض النصوص أو ترديداً للمعلومات ولكنه إحساس جيّاش بالفردية وتساؤلٌ فاحص للوجود ورغبة متأججة في المعرفة واستنطاق لحوح للأشياء وملاحظات جادة وحادة واعية دقيقة شاملة لما يحدث في الدنيا من تقلبات وما يبرز من ظواهر، وما يستجد من وقائع وما يُكشف من معمّيات فالمعرفة تفاعل ساخن مضطرم مع معطيات الواقع وليس استقبالاً سلبياً لما هو جاهز من معلومات باردة..
إن هنري جيمس قد ضاق بقيود التفكير المدرسي فنجا بنفسه من الترديد البليد فبنى نفسه بنفسه فصار مبدعاً وأصبح محل دراسات أكاديمية متخصصة فالبروفيسور ليون إيديل هو أحد الأكاديميين البارزين الذين اهتموا بدراسة إباعات هنري جيمس فأصدر عنه كتاباً ضخماً من أربعة أجزاء ونال عنه جائزة بوليتزر والكتاب القومي وقد نال الدكتوراه من جامعة باريس، وعمل أستاذاً في جامعة نيويورك وأستاذاً في عدد من الجامعات العالمية والأمريكية كجامعة هارفارد وهذا شاهد من شواهد كثيرة على المكانة الإبداعية التي وصل إليها هنري جيمس فاعترفتْ بها له جامعات عالمية واهتم به أكاديميون متخصصون..
لقد صار هنري جيمس مثالاً للتفرد والإبداع يُستشهد بإنجازاته ويُقتبس من أقواله في مجالات عديدة كالتربية والإدارة والفكر والأدب والإبداع فيَستشهد به عالم الإدارة والباحث في مجالات القيادة مثلما يستشهد به أستاذ الفلسفة أو الناقد أو المربي أو المهتم بمجالات التحفيز وإبراز النماذج المضيئة لتقتدي به الأجيال..
إن الأهمية الفكرية والإبداعية لهنري جيمس تشهد لها عناية الدارسين من مختلف التخصصات ففي لقاء للمعهد الملكي البريطاني للفلسفة تناول المحاضرون عام 1982م العلاقة بين (الفلسفة والأدب) وقد ظهرت المحاضرات في كتاب يحمل هذا العنوان ترجمة ابتسام عباس ومراجعة د. عبدالأمير الأعسم وقد تناولت المحاضرات قضايا فلسفية مهمة في إبداعات دستويفسكي وتولستوي وبرنارد شو وغيرهم وخصوا هنري جيمس بدراسة عميقة قدمها أستاذ الفلسفة في جامعة أدنبرة بيتر جونز وهو مؤلف كتاب (الفلسفة والرواية) وكتاب (وجدانيات هيوم) وغيرهما، وقد أبرز الأفكار الفلسفية في إحدى روايات هنري جيمس وهي رواية (الإناء الذهبي) فيقول عن إحدى النقاط الفلسفية: «في تأملنا للعلاقة بين ما هو أخلاقي وما هو جمالي لابد لنا ونحن نقرأ أعمال هنري جيمس من تأمل الدور الذي يلعبه ما هو أساس، وما هو خاص في كل واحد من العالمين.. إن الكاتب الذي يرغب في وضع الحالة الخاصة في المقام الأول لابد له من إقناع قرائه بعدد من السبل التي تقودنا إلى مواجهة كل حالة مواجهة ناجحة ما من شيء يعوض عن سرد التفاصيل الدقيقة في مثل هذه الأعمال لذا لم يكن من قبيل المصادفة أن تأتي روايات جيمس الجادة بهذا الطول» وهو بذلك يرد على الذين ينتقدون هنري جيمس ويضيقون بطول بعض رواياته وكثرة التفاصيل فيها..
تطلق سوزان سونتاغ في كتابها (الالتفات إلى ألم الآخرين) على هنري جيمس لقب (ساحر فن الإطناب) فهي ترى أن لجوء جيمس إلى التفاصيل التصويرية الواصفة كان قبل سيادة إعلام الصورة فقد كان الوصف المفصل ضرورياً لتجسيد الأحداث وتستشهد مؤيدة بوولتر ليبمان الذي كتب يقول: «إن للصورة اليوم سلطاناً على الخيال كذلك الذي كان للكلمة المطبوعة بالأمس، وللكلمة المنطوقة قبل ذلك إنها تبدو واقعية تماماً» فالصورة تجسيدٌ حي تضيق فيه مساحات التأويل وكما تقول المبدعة فرجينيا وولف عن الصورة بأنها: «ليست جدلاً إنها ببساطة بيان خام عن الواقع يخاطب العين» لكن الإبداع الروائي فن رفيع فالرواية لا تكتفي بتقديم واقعة جافة كمادة خام بل تقدم المعلومة والفكرة والرؤية والفائدة والمتعة إنها تعالج الملل الخانق فتمنح التسلية واللذة ممزوجتين بالفائدة والمعرفة..
ويتناول البروفيسور ليون إيديل المتخصص بإبداعات هنري جيمس هذه الظاهرة الأسلوبية الملحوظة في إبداعاته فيقول: «لم يلجأ جيمس إلى أساليب السرد القديمة» ثم يؤكد أن: «أسلوب جيمس في السرد أسلوب يعتمد على المرئيات الى حد كبير وقبل عصر الكاميرا يبدو أنه كان مدركاً لوجود العدسات فهو يتحرك وينتقل من اللقطة المقربة الكبيرة إلى اللقطة البعيدة، إنها طريقة مثيرة لسرد القصة» إنه يستخدم تقنيات أسلوبية ذكية متنوعة تتيح له إبراز ما يود إبرازه بتسليط الأضواء عليه ووضع الظلال على ما يود إخفاءه أو التعليم عليه فهذا التموج يؤكد امتلاك رؤية فكرية نافذة ومهارة أسلوبية عالية..
أما بيتر جونز فيتناول فلسفة وتأويل رواية (الإناء الذهبي) وهي إحدى روايات هنري جيمس فيحلل العلاقة بين المعرفة والفعل،وبين الإرادة والاختيار، وبين الذوق والتقييم وقضايا أخرى كثيرة تتعلق بالفرد وعلاقته بالمجتمع وبالمسؤولية والالتزام الأخلاقي ومسائل أخرى كثيرة: «فالرواية صورة عن الحياة يتم فيها تجسيد الأفكار وعرض الصور من أجل دعم فرضيات معينة من شأنها حث القارئ على البحث عن الحقائق المجسدة وفهمها كما تثير في نفسه أفكاراً خاصة به وذات علاقة بموضوع الرواية».
وينتهي أستاذ الفلسفة بيتر جونز في قراءته للرواية إلى القول: «تمثل الإناء الذهبي أحد السبل في ممارسة الفلسفة إن تأملات جيمس الفلسفية وإشاراته النظرية لَتستدعي تحليلاً واستنتاجاً وإن مثل هذا البحث الوافي لتأملاته ولتأويل أكمل للإناء الذهبي لابد أن ينتظر مناسبة أخرى لتفصيله» أي أنه يرى أن الدراسة الفلسفية التي قدمها عن رواية واحدة من رواياته لم تكن كافية وإنما لابد من إعادة الدراسة وتدقيق النظر لاستخلاص المزيد والمزيد من خبايا النص الإبداعي الجميل..
ويمتد الاهتمام بإبداعات هنري جيمس فتتنوع مجالات الاستشهاد به والتنويه بسخاء إنجازاته ففي كتاب (النقد الأدبي والعلوم الإنسانية) يوضح المؤلف جان لوي كابانس بأن هنري جيمس كان السلف الرائد لبرومست وجيد وفاليري وإليوت في زعزعة التصور القديم عن الإبداع والمبدعين فالإبداعات هي إضافات إبداعية وليست مجرد انعكاس للبيئة أو للفرد .. إن الإبداعات أحداثٌ فكرية وجمالية ونقدية ومعرفية تضاف إلى الرصيد الإنساني الذي ينمو بمثل هذه الإبداعات إنها تحفز للتقدم وتحدو للتحرر وتفتح آفاقاً جديدة للفكر والفعل،وتنشد الازدهار الشامل..
حين أراد البروفيسور هينيج كوهن إبراز وتحديد (معالم الثقافة الأمريكية) استكتب عدداً من الأكاديميين من مختلف الجامعات الأمركية ليكتب كلّ واحد منهم عن معْلَم واحد من هذه المعالم وقد اختار رواية (السفراء) لهنري جيمس بوصفها من أهم معالم الثقافة الأمريكية، واختار البروفيسور ليون إيديل للكتابة عنها وبذلك جاء هنري جيمس بجوار بنيامين فرانكلين وواشنطن إيرفنج وهرمان ملفل وشقيقه وليم جيمس ومارك توين وآرنست همنجواي وغيرهم من العمالقة الذين يمثلون معالم بارزة للثقافة الأمريكية..
إن التدفق الإبداعي التلقائي عند هنري جيمس هو أحد شواهد نظرية التلقائية الإنسانية وكما كتبَ عنه كولن ويلسون: «كان يعرف أن فكرة الرواية تأتيه بإلهام مفاجئ على شكل رؤى حيوية فريدة من الصعب حفظ عطرها النادر وما يفعله حين يجلس ليكتب هو خلق وعاء يمكن أن يحتفظ بكل قطرة من هذا العطر دون السماح له بالتبخر» .
إن مبدعاً اقتضى إبداعه من البروفيسور ليون إيدل كتاباً في أربعة مجلدات وأعقبها بكتاب آخر هو الكتاب الثاني في سلسلة (أعلام الأدب الأمريكي) وهو ليس سوى دارس واحد من عشرات بل مئات الدارسين، إن مبدعاً بهذه الضخامة لايمكن أن يكون مقالٌ كهذا سوى إشارة خاطفة نحو عالم زاخر بالريادة والإبداع ، والتفرد والإنجاز لكن هذا التفرد الباهر لم يكن حظاً خصه بعناية استثنائية وإنما هو ثمرة الشغف الشديد والاستغراق التام، والاندفاع التلقائي المتجدد فلقد وصفوه منذ صغره بأنه: مُلتهم المكتبات فالإنسان بما ينضاف إليه وليس بما يولد به فلقد بادر مبكراً بالانفراد بنفسه فانقذها من التدجين المدرسي البليد، وتعهد ذاته بالتعبئة المتجددة الجادة الحميمة المنتقاة فحفظ طاقته من التبدد فيما لا نفع فيه، واستثمر كامل وقته فيما يريده هو فلم يدع الآخرين ينهبونه منه، أو يستهلكونه بما لا يريده وليس هو بحاجة إليه..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.