شهدت بورما (ميانمار)، في النصف الأول من حزيران/ يونيو 2011، موجة اضطرابات عرقية أوقعت عشرات الضحايا بين صفوف المدنيين. وقد وقعت الاضطرابات بداية في ولاية راخين، في شمال غرب البلاد، على الحدود مع بنغلادش. ثم أعقبتها احتجاجات ذات صلة، في مدينة رانجون، التي تعد أكبر مدن البلاد. لا يجوز النظر إلى التعايش الأهلي باعتباره مفهوماً سكونياً جامداً، بل هو حصيلة تراكمية لإرادة جمعية واعية ومدركة. ولا تتأتى صيانته إلا بالمحافظة على مكونات هذه الإرادة، ومقومات الديمومة فيها وثارت الاضطرابات في الولاية بين قومية الروهينجيا المسلمة وقومية راخين البوذية. ويقيم الروهينجيا، الذين يقدر عددهم بحوالي 750 ألف نسمة، في شمال راخين بوجه خاص، فيما يقيم عشرات آلاف آخرين في مخيمات في بنغلادش. وقد كتبت صحيفة "نيو لايت أوف ميانمار" الرسمية، الصادرة بالإنكليزية، تقول: إن "الكراهية وسوء التفاهم، أو أي شكل من أشكال النزاع لا تخدم مصالح أحد، بل تجلب الثأر والفوضى والركود". وأضافت: "عندما يحل انعدام الثقة بين الشعوب فإنه يحول منطقتها إلى أتون وبؤرة للتضليل"، مشيرة إلى أن "الشائعات تنتشر في كل مكان، كما يطرق الشيطان كل باب، كرسول موت ودمار". وعلى الصعيد الدولي، دعت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، في 11 حزيران/ يونيو، إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العرقية والطائفية في بورما. وقالت كلينتون في بيان: إن "الولاياتالمتحدة قلقة جداً من استمرار أعمال العنف الأثنية والطائفية، في ولاية راخين بغرب بورما، وتدعو جميع الأطراف إلى ضبط النفس، ووضع حد لهذه الهجمات". وأضافت: "ندعو البورميين إلى العمل معاً، من أجل بناء بلد مسالم وديمقراطي، يحترم حقوق كافة المجموعات التي يتألف منها". وقالت كلينتون: إن "الوضع في ولاية راخين يؤكد الحاجة الماسة للاحترام المتبادل، بين كافة الجماعات العرقية والدينية، وبذل جهود جادة لتحقيق المصالحة الوطنية في بورما". وكانت كلينتون قد قامت بزيارة تاريخية لبورما في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2011. كما أعلنت الولاياتالمتحدة، في 17 أيار/ مايو، تعيين سفير فيها، للمرة الأولى منذ 20 عاماً. ويطالب الروهينجيا بالاعتراف بهم كجماعة عرقية لها حقوق المواطنة الكاملة. ويشيرون إلى أن أصولهم في ولاية راخين ترجع إلى عدة قرون مضت. بيد أن الحكومة البورمية لا زالت تعتبرهم مهاجرين غير شرعيين وفدوا من بنغلادش. وفي خارطة التوزيع العرقي البورمي، يشكل البورمن 68% من سكان البلاد، في حين يُمثل الشان 9%، الكارين 7%، الراخين 4%، الصينيون 3%، الهنود 2%، المون 2%. ومن ناحية أخرى، يمثل البوذيون 89% من السكان، والمسلمون 4% والمسيحيون 4%. وتقع بورما في جنوب شرق آسيا، بين بنغلادش وتايلاند. ويبلغ عدد سكانها حوالي 55 مليون نسمة، وفقاً لتقديرات العام 2012. وتزيد مساحة البلاد على 676 ألف كيلومتر مربع. وتصل طول حدودها البرية إلى 5876 كيلومتراً. وأطول هذه الحدود مع الصين، بواقع 2185 كيلومتراً، ثم تايلاند، بواقع 1800 كيلومتر، الهند 1463 كيلومتراً، لاوس 235 كيلومتراً وبنغلادش 193 كيلومتراً. كذلك، تمتلك بورما ساحلاً بحرياً بطول 1930 على كل من خليج البنغال وبحر أدمان. ولدى بورما قدر وفير من الثروات الطبيعية، أبرزها النفط والغاز، الفحم الحجري، الزنك، النحاس، الحديد، التنغستون، الأخشاب، الجير، المرمر والأحجار الكريمة. وعلى الرغم من هذه الثروات، تعاني بورما من اختلالات الاقتصاد الكلي، بما في ذلك من أسعار الصرف الرسمية، والعجز المالي، ونقص الائتمان التجاري، والتضخم الذي لايمكن التنبؤ به. وتنتج البلاد حوالي 21 مليون برميل يومياً من النفط، وتستورد حوالي 20 مليون برميل لتغطية فجوة الطاقة النفطية لديها. وعلى مستوى الغاز الطبيعي، تنتج البلاد حوالي 11.5 مليار متر مكعب يومياً، تصدر منه نحو 8 مليارات متر مكعب. ولدى بورما احتياطيات مؤكدة من الغاز الطبيعي، تزيد على 283 مليار متر مكعب، وفقاً لتقديرات مطلع العام 2011. من جهة أخرى، تواجه الصناعات التحويلية والخدمات مشكلة ضعف البنية التحتية، وفرص الحصول على رؤوس الأموال اللازمة للاستثمار. وفي العام 2011 اتخذت الحكومة خطوات رئيسية على طريق الانفتاح الاقتصادي، وقامت بخفض الضرائب المفروضة على الصادرات، وخففت القيود عن القطاع المالي. وقد ترافقت هذه الخطوات مع بداية رفع العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على البلاد، من قبل عدد من الدول، والتي دامت عقوداً من الزمن. وكما سبقت الإشارة، فقد أعلنت الولاياتالمتحدة تعليق العقوبات ضد بورما في أيار/ مايو الماضي. وهو ما يسمح لشركات الطاقة والتعدين والخدمات المالية الأميركية بالبحث عن فرص استثمارية واعدة. كذلك اتخذت خطوات في الاتجاه ذاته من قبل الاتحاد الأوروبي وأستراليا ودول أخرى. وكانت عقوبات الاتحاد الأوروبي قد استهدفت نحو ألف شركة ومؤسسة، من خلال تجميد الأرصدة، كما شملت حظراً على إصدار التأشيرات لنحو 500 شخص. وتضمنت هذه العقوبات أيضاً منع تقديم مساعدات فنية متعلقة بالجيش، وحظراً على الاستثمارات في قطاعات التعدين والأخشاب، والمعادن النفيسة. وذلك فضلاً عن حظر الأسلحة، الذي لم يشمله قرار تعليق العقوبات الأوروبي أو الأميركي. على صعيد المؤشرات الاقتصادية الأساسية، بلغ الناتج القومي الإجمالي لبورما 82.72 مليار دولار (50.2 مليار دولار بسعر الصرف الرسمي) في العام 2011، صعوداً من 78.34 مليار دولار عام 2010، و74.36 مليار دولار عام 2009. وتشكل الزراعة 43% من الناتج القومي الإجمالي للبلاد، مقابل 36.6% للخدمات، و20.5% للصناعة. وبلغ إجمالي صادرات البلاد من السلع والخدمات حوالي 9.5 مليارات دولار عام 2011، في حين بلغ إجمالي وارداتها 5.5 مليارات دولار. ويبلغ دخل الفرد السنوي في بورما 1300 دولار، وفقاً لمؤشرات العام 2011. وهي تأتي في مرتبة عالمية متأخرة جداً على هذا الصعيد، بعد ليسيتو (1400 دولار)، وقبل هاييتي (1200 دولار). وبالمقارنة مع مؤشرات العام ذاته في بقية دول جنوب شرق آسيا، فقد بلغ معدل الدخل الفردي، في سنغافورة 59.9 ألف دولار، وفي بروناي 49.4 ألف دولار، ماليزيا 15.5 ألف دولار، تايلاند 9700 دولار، إندونيسيا 4700، الفلبين 4100، فيتنام 3300، لاوس 2700 وكمبوديا 2300. وبالعودة إلى قضية التوترات العرقية والطائفية في بورما، فقد جرى تشكيل لجنة خاصة للتحقيق في أحداث ولاية راخين، كما توالت الدعوات الرسمية لتطويق ذيول هذه الأحداث. أما صحافة بورما، ووسائل الإعلام الأخرى فيها، فلا تزال تواصل تعليقاتها الداعية إلى الوحدة الوطنية، والقفز على الخلافات العرقية والطائفية، باعتبار أن ذلك هو السبيل الوحيد لتحقيق مصالح جميع الأفراد والفئات. وفي الحقيقة، فإن الأحداث الأخيرة في غرب بورما، وقبلها في جنوب تايلاند المجاورة، كما في الفلبين، ودول أخرى، تؤكد حقيقة أن تعايش الأعراق والفئات المختلفة هو خيار تمليه كافة الاعتبارات الوطنية والدينية. وأن البديل عنه لا يعني سوى الهلاك الجماعي. يجب علينا التأكيد، على نحو مستمر، حقيقة أن التعايش الأهلي يُمثل إحدى الدعائم المؤسسة لاستقرار الدول. وهو جزء أصيل من مقومات أمنها القومي. وفي اللحظة التي تفقد فيها الدول تعايشها الأهلي، تكون قد أضاعت مبرر وجودها، لأن الوطن، أي وطن، وجد ليكون حاضنة لأبنائه، ووعاءً تتفاعل فيه طاقاتهم، فتنتج ازدهاراً مشتركاً، ونفعاً عاماً، هو ما يُعبر عنه بالمصلحة الوطنية. وحتى بافتراض بقاء الأمن (أو الاستقرار) بمفهومه التقليدي الضيق، فإن غياب التعايش الأهلي يعني تشظياً للإرادة المشتركة والذاكرة الجمعية. وهذا هو المعنى الرديف لضياع الهوية، وفقدان الوطن لدوره ورسالته. كذلك، لا يجوز النظر إلى التعايش الأهلي باعتباره مفهوماً سكونياً جامداً، بل هو حصيلة تراكمية لإرادة جمعية واعية ومدركة. ولا تتأتى صيانته إلا بالمحافظة على مكونات هذه الإرادة، ومقومات الديمومة فيها. إن ذلك تحديداً ما نعبر عنه بثقافة التعايش، أو البناء الثقافي الذي يؤكد القواسم المشتركة، ويعمل على تعزيزها. وبهذا المعنى، فإن التعايش الأهلي مهمة وطنية عامة، تقع مسؤولية النهوض بها على كافة الأفراد والجماعات والمؤسسات.