ثمة لحظتان فكريتان، وسياسيتان مرت بهما التيارات الإسلامية بمستويات متفاوتة وهي: 1-لحظة بناء الجسور، والمصالحة بين الإسلام والسياسة : إذ إن عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ، كان الجدل الفكري والتحدي السياسي الذي يواجه التيارات الإسلامية ، هو هل الإسلام كمنظومة عقدية وتشريعية ، يتضمن قيما وأحكاما سياسية ، ويشجع المؤمنين به للانخراط في هذا الحقل ؟ وقد عمل علماء وفقهاء ودعاة التيارات الإسلامية في هذه العقود على كتابة المؤلفات التي توضح الخطوط السياسية العامة التي يتضمنها الإسلام.. وأن الدين الإسلامي لديه نظام للحكم ، ويعمل من أجل تسويد القيم السياسية في فضائه الاجتماعي.. إن عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ، كان الجدل الفكري والتحدي السياسي الذي يواجه التيارات الإسلامية ، هو هل الإسلام كمنظومة عقدية وتشريعية ، يتضمن قيما وأحكاما سياسية، ويشجع المؤمنين به للانخراط في هذا الحقل؟ ولو تأملنا في أغلب الإنتاج الفكري والثقافي للإسلاميين في تلك الفترة ، لرأينا أن أغلبه يعالج هذه الإشكالية ، ويجيب عن مقتضياتها ، ويفكك عقدها النظرية والمعرفية المختلفة.. 2-اللحظة الفكرية والسياسية الثانية ، هي التي انطلقت مع بداية عقد الثمانينيات الميلادية ، وبواكير الصحوة الإسلامية التي عمت أغلب البلدان العربية والإسلامية ، وتوفر المناخ الذاتي والموضوعي لتجاوز إشكالية الإسلام والسياسة ، وانتقل الجدل والتحدي إلى لحظة بناء الجسور والمصالحة بين الإسلام والديمقراطية.. وأعتقد أن هذه الإشكالية لا زالت مستمرة إلى هذه الفترة ، ولا زال الجدل الفكري والسياسي يدور حول هذا العنوان العام.. وبإمكاننا أن نحدد الجدل الفكري - السياسي في هذه اللحظة وفق المستويات التالية : 1-مستوى الجدل حول مشروعية بناء الأحزاب والتنظيمات السياسية في الإسلام.. كما يشمل هذا المستوى بلورة فكرة المعارضة في الرؤية الإسلامية السياسية.. وهناك كتابات كثيرة لدى التيارات الإسلامية التي عكست هذا الجدل وأولويته في مناخ الحركية الإسلامية المعاصرة.. 2-مستوى الجدل حول مشروع الدولة الإسلامية ، وما هي أسسها ومرتكزاتها وسبل إنجازها.. وامتد الجدل في هذا السياق إلى أن وصل إلى مفهوم الدولة المدنية وأن الدولة التي ينشدها الإسلام والتيارات الإسلامية هي دولة مدنية ولا تمت بصلة إلى شكل الدولة الثيوقراطية التي عرفها الغرب في حقبة ماضية.. 3-مستوى الجدل حول موقف الإسلام من الديمقراطية ، وهل تقبل المنظومة التشريعية الإسلامية آليات عمل الفكرة الديمقراطية.. وقد اتخذ الجدل في هذا السياق المراحل التالية: أ - المرحلة الأولى التي يمكن أن نعنونها في(قال الإسلام قبل ذلك) وهو العمل الفكري والثقافي الذي يستهدف خلق مقابلة بين الديمقراطية والشورى ، وإن كل حسنات النظام الديمقراطي موجودة في الرؤية الإسلامية.. ب- المرحلة الثانية والتي ساهم في تزخيمها معرفيا وفكريا مشروع أسلمة العلوم الاجتماعية هي مرحلة تفكيك الموقف من النظام الديمقراطي.. بحيث أصبحت رؤية التيارات الإسلامية قائمة على رفض الخلفية الفلسفية والعقدية للنظام الديمقراطي ، والقبول بالآليات والأطر الديمقراطية والعمل على تبيئتها إسلاميا ومعرفيا.. وبإمكاننا أن نقسم موقف التيارات الإسلامية تجاه مقولة الديمقراطية إلى التقسيمات التالية : * رفض الديمقراطية بوصفها بضاعة غربية.. * التوليف بين نظام الشورى ونظام الديمقراطية (الشوقراطية).. * القبول بالديمقراطية كآليات إجرائية ورفضها كمفهوم ومرجعية فكرية وفلسفية.. * القبول بالديمقراطية كحمولة سياسية متكاملة شريطة تأسيسها وتجذيرها في الثقافة الإسلامية ج- المرحلة الثالثة هي مرحلة الانخراط في العمل السياسي والقبول بقواعد اللعبة السياسية الموجودة في البلدان العربية والقبول بأن يكون الحكم بين التيارات الإسلامية وغيرها والسلطة هو صناديق الاقتراع.. وأعتقد أن هذه المرحلة لم تتبلور نظريا ومعرفيا في المنتج الفكري والثقافي للحركية الإسلامية بما فيه الكفاية.. مع إدراكنا على هذا الصعيد أنه في الدول العربية التي سمحت للتيارات الإسلامية بالعمل السياسي - العلني وفيها انتخابات فإن التيارات الإسلامية انخرطت في هذه الممارسة بكل تفاصيلها ، مع ضبابية واضحة وحذر معرفي عميق على المستوى النظري والفكري(ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى موقف التيارات الإسلامية في الكويت من مشاركة المرأة في العمل السياسي النيابي).. د- المرحلة الرابعة وهي تتجسد في اهتمام علماء ومفكري التيارات الإسلامية بقضايا الحوار والتعددية والحريات والتحديث وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية ونبذ العنف ورفض قمع الآراء وصيانة حق التعبير.. وفي هذا الإطار تبلورت المبادرات والمؤسسات الحقوقية في إطار التيارات الإسلامية ، واعتنت هذه التيارات بعلاقاتها الدولية والانفتاح على العديد من المؤسسات الحقوقية والمدنية الدولية.. وفي هذا السياق صدرت بعض الدعوات الفكرية والإعلامية ، التي تدعو إلى بناء وصياغة ميثاق إسلامي يستند إلى قيم العدل والشورى وحقوق الإنسان ونبذ الاستبداد وكل أشكال الاستئثار والاحتكار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. فالخطاب السياسي للإسلاميين بدأ وانطلق بمفاهيم تطبيق الشريعة والحاكمية ، وانتهى بمفاهيم الحرية ومواجهة الاستبداد والدكتاتورية والتعددية والمشاركة وبناء التحالفات على أسس سياسية ومصلحية.. مآلات الخطاب الإسلامي : ه- المرحلة الخامسة ويمكن أن نقول إنها دشنت مع تحولات الربيع العربي ، والذي وفر للتيارات الإسلامية فرصة نوعية لاستلام مقاليد الأمور أو المشاركة السياسية الفعالة في دول الربيع العربي.. والورقة تعمل على بلورة الخيارات السياسية المتوقعة للإسلاميين في هذه الحقبة.. وفي هذا السياق أود أن أوضح النقاط التالية : 1-إن الدولة التي انخرط الإسلاميون في سلطتها السياسية ، ليست دولة الخلافة أو ولاية الفقيه ، وإنما هي دولة تعددية - تشاركية ، يتحالف الإسلاميون مع غيرهم من الجماعات من أجل بناء سلطة سياسية جديدة.. 2- إن الجهود السياسية المبذولة لدى أغلب التيارات الإسلامية اليوم ، تتجه إلى إطار (الدولة الوطنية القائمة) وتراجعت من جراء ذلك فكرة الدولة الإسلامية الواحدة للأمة الإسلامية الواحدة.. في تجربة التيارات الإسلامية في مختلف أطوارها تعيش في آن واحد هاجسين: هاجس السياسة والتمكن السياسي والعمل على بناء حركة سياسية قوية وقادرة على الاستقطاب والانجاز.. والهاجس الآخر هو العمل الفكري والنشاط الدعوي والإصلاح الديني.. وبروز هذه الاهتمامات وإعطاؤها الأولوية ، يعود إلى طبيعة الظروف والأحوال.. فإذا كان أفق العمل السياسي مفتوحا ومشجعا ، فإنها تتجه إلى هذا الحقل ، وتعمل للبروز فيه.. أما إذا كان هذا الأفق مغلقا لأي سبب كان فإن التيارات الإسلامية تتجه إلى العمل الفكري والتربوي والنشاط الدعوي وقضايا الإصلاح الديني.. وهنا أود أن أطرح أحد المآزق التي تواجه الحركية الإسلامية على هذا الصعيد : الممارسة السياسية وبعض تكتيكاتها ، لا شعبية لها ، وتثير الكثير من الاختلافات والتباينات ، وتقود بعضها إلى التشظي والانشقاقات.. وقليل من الزعامات الحركية من يمتلك الجرأة الكافية لمصادمة قاعدته الاجتماعية ، ما يجعل الفاعل السياسي- الإسلامي ، يتوقف عن ممارسة بعض الخطوات والتكتيكات السياسية التي لا شعبية لها ، ما يفقد التيارات الإسلامية القدرة على المبادرة والإبداع والاقتحام.. هذا من جهة ومن جهة أخرى انشغال التيارات الإسلامية بقضايا الإصلاح الديني والعمل الفكري والدعوي ، غالبا ما يفضي إلى صدام مع المؤسسات الدينية والاجتماعية التقليدية ، ما يجعل هذه التيارات تعيش التحدي ، فمن جهة نزعتها التجديدية والتغيرية ، تدفعها إلى ممارسة النقد للسائد الفكري والديني ، ولكن حاجتها إلى الأصدقاء والمساندين في نشاطها السياسي ، قد يوقفها عن نزعتها التجديدية.. فهذه الازدواجية بين مشروع الإصلاح الديني والثقافي من جهة ، والنشاط السياسي المطالب بالتغيير من جهة أخرى ، تساهم في إرباك التيارات الإسلامية على صعيد الوفاء لالتزاماتها الأيديولوجية وعلاقاتها الاجتماعية.. وفي سياق هذا الاستقطاب ، تورطت بعض التيارات الإسلامية في قضايا التكفير والنبذ وممارسة العنف المعنوي والمادي بحق أطراف أو شخصيات اتهمت بالعلمانية أو الإلحاد، أو الخروج عن مقتضيات الصراط المستقيم..