بعد قرابة ربع قرن على رحيله في أبريل 1981 عن حوالي ثمانية وثلاثين عاماً، أعاد مجموعة من النقاد والأكاديميين والمبدعين اكتشاف يحيى الطاهر عبد الله إنساناً وأديباً وثائراً، وذلك من خلال ملف كبير بعنوان «يحيى الطاهر عبد الله: إعادة اكتشاف مبدع كبير» نشرته في عددها الأخير مجلة «الثقافة الجديدة» التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، ونشرت المجلة كذلك مختارات من قصصه في كتاب مستقل تم توزيعه بالمجان مع المجلة. الناقد الدكتور رمضان بسطاويسي يقول في دراسته «تجربة يحيى الطاهر القصصية من الأسطورة إلى المفارقة الساخرة»: «الكتابة عن يحيى الطاهر صعبة للغاية لمن عايشه عن قرب، لأنه تتزاحم على المرء خواطر كثيرة من المشاهد المختلفة التي صاحبه فيها، فكان لا يركب الأتوبيسات المزدحمة، لأنه كان يري أنها لا تليق بالآدميين، وكان يصر على المشي على الأقدام مهما كانت المسافة طويلة! كان متوحداً في كل شيء، لا يعتمد على أحد سوى ذاته، وحين تدهورت أحواله الاقتصادية انتقل للسكن في مصر القديمة في سكن بسيط، وكانت شهرته ككاتب قصة قد ذاعت، وظل حتى مات في حادث سيارة أبي النفس رغم مرارات الحياة التي كان يشعر بها. والكتابة عند يحيى الطاهر هي انحياز لقضايا بعينها، وهي فهم كيف يعيش البشر البسطاء في ربوع مصر ولا سيما في جنوب وادي النيل، وكيف يرتبط الناس بالمكان وما يحويه من حياة وأسطورة، وكيف يكون الحكي والقص إعادة بناء لعلاقة البشر بالحياة والمكان بناء على تراكم الخبرات والثقافة الحية بما يساعد على إضاءة تجربة الوجود الإنساني، ولذلك فإن أعمال أي كاتب تفصح عن رؤيته في الحياة لأن كل كتابة تقدم فلسفة خاصة في الكتابة وفهماً لدورها في الحياة وتعكس مسؤولية الكاتب تجاه القارئ. وتجربة يحيى الطاهر فريدة في عالم الكتابة، لأنه كان شديد الحرص على أن تعكس الكتابة تجربته الشخصية، ليس بمعنى الحديث عن الأحداث التي يمر بها في حياته، ولكن بمعنى أن تعكس فهمه لأحداث الحياة اليومية». وبعنوان «الكتابة: عسل الفقراء» يقول القاص والكاتب عبد الحكيم حيدر: «كان للفرح المخاتل مع ابن الحيلة الفقير يحيى الطاهر عبد الله حكاية، فقد شقت له الأنهار تحت قدميه مرة واحدة، وحينما مال لكي يشرب، حان ميعاد الملائكة! لماذا يكتب الفقراء؟ لا يريد الفقير أن يموت مهزوماً بفقره، ولذلك يكتب، هو يكتب كي يلاعب الفقر بالكلام، بالمعنى، بالحيلة، يكتب هذا النوع كمن يرقص في الأفراح مع عدوه، يعرف تماماً لحظة الفرح فيرقص، ويعرف أنه يراقص عدوه، يعرف قدر الحيلة، ويعرف قوة العدو، يعرف كآبة الفقر، ويعرف فرح الحيلة، كان يحيى يجيد اللعب مع الفقر/العدو، يجيد مشاكسته، يطعنه بالكلام، ولا يطعنه بالسيف، يطعنه بالمعنى، ولا يطعنه بالسلاح. وما أعنيه بالفقر هو ذلك الذي لا يترك في الروح ندبة لا تمحى أبداً. الفقر الذي لا يترك في الواحد عاهة مستديمة، عاهة تدخل مع الواحد القبر، حتى وإن أدخلوا مع الواحد كل ذهب وخمر وقمح الفراعنة. أعني الفقر المرح الذي لا نتربص به، ولا حتى يتربص بنا، فقر نضحك عليه بالحيلة، ويضحك هو علينا باستمراره، وكأن الحياة ما هي إلا عمر الحيلة، حيلة اللعب معه، وإن كان علي بن أبي طالب لم يجد معه من حيلة سوى اللعب بالسيف، ولا معنا سيف، ولا حتى عصا. الفقر الذي يترك في الروح ندبة، هو فقر لم يتجاوز صاحبه آلامه، هو فقر مقيم في الروح حتى وإن تجاوز صاحبه الحاجة، ولكن يظل الألم الأول كشبح عنيف يفسد على الفقير لحظته، ويظل يتغنى بالألم الأول، بالعضة الأولى دون أن يتمتع بنعيم ما كسبت يداه. لا أحب التغني بالفقر، كما لا أحب التغني بالثراء، فنعمة الاثنين في المحبة، والزوال طابع الأشياء. فلا فضيلة أصيلة في الفقر بأي شكل، ولا فضيلة أصيلة في الثراء، أما الوسط ما بين الاثنين فقطعاً هو أصل الداء! فهذه الطبقة المحاولة (الوسطى)، التي لا هي في السماء، ولا هي في الأرض، طبقة تحاول أن تتجاوز عنت الحاجة إلى وفرة السماء، فصنعت المدافع والدساتير والدسائس والمعرفة، طبقة تحاول أن تصل السماء بالأرض، فلا هي تنعمت بمحبة الأرض حيث الناس والحاجة والمرح، ولا هي تنعمت بملكوت الوفرة، فصاروا خدماً للمعرفة وخدماً للسلطة وعوناً ملكياً لانتشار العُصاب. إننا نكتب لأننا نريد أن نقدم شهادة على الخسارة!». وبعنوان «لماذا يحيى الطاهر عبد الله» يقول الكاتب سامي خشبة: «ما من واحد عرف يحيى الطاهر إلا ويستطيع أن يستعيد أو أن يستحضر حضوره الآسر إنساناً يبحث عن المشاركة والفهم: يحب أن يشارك الآخرين وأن يشركهم في حياته؛ وأن يفهم عنهم وأن يبادلهم الفهم. كتب يوسف إدريس «لغة الآي آي»، وكانت بداية تغير كيفي في كتابة يوسف إدريس أسلوباً ورؤية بعد أن قرأ يحيى الطاهر عبد الله وصنع الله إبراهيم. هذا ما استقر عندي، ليس فقط بسبب تواريخ القراءة والكتابة، وإنما بسبب إصرار يوسف إدريس على إعادة قراءة الأعمال التي أخذ منها يحيى «مقتطفات» بعينها في بدايات بعض قصصه القصيرة؛ وعلى البحث عن تفسير مختلف لتلك الأعمال عما كان قد اعتاد عليه قبل أن يقرأ يحيى وصنع الله وأصلان والبساطي.. وقبل أن يسمع منهم فهمهم لتلك الأعمال». ونشرت «الثقافة الجديدة» كذلك مقالاً للكاتب الراحل يوسف إدريس يقول فيه راثياً يحيى الطاهر عبد الله: «أصيب ومات يحيى الطاهر عبد الله ولم يبلغ من العمر الثمانية والثلاثين عاماً. كتب مجموعات من عيون القصة العربية الحديثة. وتزوج وخلف بنتين، وبالكاد بدأ يتنفس الصعداء، وإذا بالقدر، ودوناً عن ركاب عربة انقلبت وكان بها ثمانية غيره - متعهم الله بالصحة وأطال في أعمارهم - اختطفه، فعلاً وكما تنطق حكمة الشعب المصري أحياناً بالحقيقة.. كان ابن موت. الموت .. ذلك القضاء الحق. مات يحيى.. هكذا نعاه لي الأبنودي في منتصف الليل. ووجدت نفسي كالأطفال أبكي عجزاً». ويقول الشاعر والناقد شعبان يوسف في قراءته «أغنية العاشق يحيى»: «لم تكن ليحيى الطاهر حسابات خارج صندوق وجدانه المصطخب بشتى تناقضات الحياة. اقترب رحيله الآن من ربع القرن، وصورته الحية أبداً ما زالت شاخصة أمامي وهو يسير أو يجري، أو يهرول، منتصب القامة كسهم أو كصاروخ على وشك الإقلاع، هذا الاسترسال ليس استرسالاً لغوياً أو عاطفياً، فيكفي أن تراه مرة واحدة لكي لا تنساه إلى نهاية العمر. الحكايات عن يحيى الطاهر لا تنتهي، ولا ينتهي مغزاها، هذا الكاتب والإنسان والمبدع الكبير، والذي وصفه صديقنا شاكر عبد الحميد بأنه : (دخل حياتنا الأدبية كالسهم ومرق من عالمنا كالشهاب)، وقدره كقدر كل الكتاب الذين لم ينحنوا أو يبيعون، رغم حماقة ونزق وتمرد وفوضى هؤلاء، وكل هذه الصفات من الطبيعي أن تصاحب وترافق فناناً كيحيى، أو كغيره، وربما هذا القدر رافق محمد حافظ رجب، وعبد الحكيم قاسم، وأمل دنقل، وكتاباً كثيرين من جيل الستينيات، هذا الجيل الذي أبدع وما يزال يبدع». ويعد الراحل يحيى الطاهر عبد الله أحد النابهين من كتاب جيل الستينيات في مصر والعالم العربي، وقد اقترن اسمه بالكتابة التي تتقصى الروح المصرية والتراث الشعبي فضلاً عن اهتمامها بالأساطير والملاحم الخالدة في الأدب العربي والعالمي، وقد عرفت عنه ثوريته وتمرده على الواقع وأحوال مجتمعه، الأمر الذي أدى إلى وصفه بأنه واحد من الأدباء الصعاليك في العصر الحديث. وقد أصدر يحيى الطاهر سبع مجموعات قصصية، منها: «ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً»، «الطوق والأسورة»، «الحقائق القديمة صالحة للدهشة»، «تصاوير من الماء والتراب والشمس».