اشتبكت منذ طفولتها ومراهقتها بالنضال الجزائري، وهو جزء من النضال العربي التحرري ضد الاستعمار، وقد هربت بعد ملاحقة الفرنسيين لها عام 1956 لكونها مسؤولة عن توزيع منشورات "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" (أسست 1954)، ونشط أعضاؤها وعضواتها في باريس، وكان والد وردة الراحل محمد فتوحي يخبئ الأسلحة التي تهرب إلى الثوار في مستودعات مطعمهم تام تام. واجهت وردة مصاعب مع السياسيين سواء في مصر أو الجزائر وحين انطلقت لتغني في بيروت ودمشق بين عامي 1957-1959 وضع لها ميشال طعمة والملحن اللبناني عفيف رضوان نشيد" كلنا جميلة"، وبعد أن جاءت إلى مصر عام 1959 وضع لها أعمالاً من الغناء السياسي كل من الملحنين الكبيرين محمد القصبجي نشيد "إياك نعبد ما حيينا" من شعر أحمد مخيمر (1960) وهي مجهولة للأسف، ورياض السنباطي الذي وضع لها أكثر من نشيد من شعر الكبير صالح الخرفي الذي كان يدرس في القاهرة حينها وهي " نداء الضمير" (1961)، و"الصامدون" (1962)، بالإضافة إلى نشيد" أنا مولودة في يوليو" كتبه عبد السلام أمين الذي لحنه السنباطي أيضاً. كما أن الملحن عبد العظيم محمد وضع لها في ذكرى مجزرة دير ياسين في فلسطين أوبريتاً جميلاً غير شهير بعنوان "3 إخوة شقايق" (1962) من شعر علي مهدي. وحين دفعتها الظروف القاهرة لترك مصر وعرض عليها الزواج فقبلته من أحد الثوار الجزائريين جمال قصري، والد ابنيها رياض ووداد. ويتوجب من مسؤولية تاريخية توضيح جذر أزمة دائمة، بين الاستبداد الذكوري الفاسد، والاستضعاف الأنثوي المقاوم، الذي يؤكد انفلات أفراد من المجتمع من تلك الجدلية بالمقاومة ولو بالحيلة. وهذا دأب وردة، بوصفها امرأة عربية صادقة مع نفسها، إذ بقيت شامخة بكبريائها وكرامتها، وهو ما يتجلى في رفضها التحالف ودناءة السياسي فواجهت لعناته بالشائعات والإجحاف في حقها، وهو مسلسل طويل عن علاقة "السياسي والفنانة"، مع الأخذ بالاعتبار ذلك القرار التاريخي الفاسد حين أقر في أجهزة الاستخبارات العربية استخدام النساء لأعمال "السيطرة السياسية" منذ عام 1962 (محضر تحقيق - محكمة الثورة، 1968، مركز المقريزي للدراسات التاريخية) الذي كشف عن تورط منسوبيه قبل غيرهم فيه! إن أول شائعة واجهت وردة حين أقامت في القاهرة 1959-1962 في عهد جمال عبد الناصر ( مواليد 1918) (1954-1970)، فربط ظلماً بينها وبين المشير عبد الحكيم عامر بعلاقة ملفقة سببها توهم من كان يراقبه من جهاز الاستخبارات بأنه يزور العمارة التي تقطنها بينما كان يقصد شقة أخيه مصطفى، واستفاد المشير من ذلك تغطية حتى لا يكشف أمر زواجه العرفي من برلنتي عبد الحميد (تزوجها عرفياً عام 1962 حتى وفاته) حيث أسقط في نفس عبد الناصر معرفة أمر ذلك الزواج فجأة رغم أن الأخير أصدر أمراً تسبب في ضرر وردة بمنعها من الغناء في الحفلات والإذاعة والتلفزيون قصد التضييق عليها وطلب منها مغادرة مصر. ونشطت الصحافة السورية طيلة فترة الستينيات في ترسيخ هذه الإشاعة، وهي ليست بعيدة عن ترويج ذات الإشاعة الساقطة ضد المبدعة الكبيرة ليلى مراد باتهامها التبرع للعصابات الصهيونية المسلحة في حرب 1948، وكل هذه الاتهامات سببها فشل الوحدة العربية بين سوريا ومصر في ما سمي حينها "الجمهورية العربية المتحدة" (1958-1961)، بأيدي الضباط السوريين الذين أرادوا "التعمية الإعلامية" عن نقضهم ميثاق الوحدة بانقلابهم لإفشالها. وقد تجرأ هواري بومدين بأن يطلب من وكيل وزارة الاقتصاد جمال قصري زوج وردة آنذاك أن تشدو بأغنية احتفالاً بالذكرى العاشرة لاندلاع ثورة التحرير الجزائرية عام 1972. ورغم أنه رشح رياض السنباطي ليلحنها غير أنه كان متعباً فكلف بليغ حمدي بذلك وكتب الشاعر صالح الخرفي قصيدة "من بعيد أدعوك" ليكون استئناف عودة وردة إلى الغناء. وحين عادت إلى مصر عام 1972 في عهد أنور السادات (مواليد 1918) (1970-1981) وحققت نجاحاً ساحقاً اتخذت فيه مكانتها بين جيلها غير أنه سبب قلقاً لأم كلثوم التي كانت في خريفها، وما زالت تذكر التهديدات الفنية القديمة من أسمهان، بينما واجهت وردة في البداية مشاكل من صباح وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة، ما دفع بالكاتب الصحفي أنيس منصور بمهاجمتها وتلفيق كلام مشين بلسان رياض السنباطي بترتيب مع أم كلثوم وقد نشر الحوار الأصلي بعد وفاة الأخيرة في كتابه (أوراق على شجر، دار الشروق 1988). وأما في عام 1977 رافق حفل "قارئة الفنجان" لعبد الحليم حافظ أحداث شغب من الجمهور الذي كان يقاطعه ما أثار حافظ فنهر الجمهور ليستمع إليه، واتهمت وردة مع بليغ حمدي تلك الفترة رغم أن الذي لفق الأمر هو صفوت الشريف قاصداً النيل من حافظ بسبب مواجهته منعاً لتجنيد سعاد حسني عام 1964، وذكر ذلك في كتاب (حليم وأنا، دارالشروق، 2010) لهشام عيسى الطبيب الخاص لحافظ. بالإضافة إلى أنها تعرضت لمنع استمر لعامين 1977-1978 من الغناء بسبب أغنية "وان كان الغلا ينزاد" (شعر ولحن علي الكيلاني) التي أدتها في احتفالات الثورة الليبية، وكان قصد السادات قرص أذنها رغم أن بليغ حمدي أخذ إذناً من وزير الداخلية في وقتها إلا أن الأمور لم تحسب جيداً غير أن الملفت هو تحقيق أغانيها عبر أشرطة الكاسيت مبيعات كبيرة جداً وأصدرت لها شركة صوت لبنان أكثر من أغنية في بيروت من أشهرهن " قال إيه بيسألوني، عايزة معجزة، ولو إنك بعيد، مقادير، كلمة عتاب"، وأنجزت ذات العام فيلم "آه يا ليل يا زمن" كما أنها دعيت لتقوم بحفلات لمدة أسبوع في مسرح الأولمبيا الفرنسي عام 1978، ولم يسبق أن دعيت فنانة عربية أكثر من يوم أو ثلاثة مثل أم كلثوم عام 1967، وفيروز 1979 ( برنامج ساعة صفا، تقديم صفاء أبو السعود، راديو وتلفزيون العرب 1997). ويذكر أن "ولاد الحلال" من الصحافة سعروا من الخلاف بينها وبين زوجها الملحن بليغ حمدي حيث روجوا كالعادة لارتباطات بينه وبين المغنية التي تبناها آنذاك سميرة سعيد (برنامج المايسترو، lbc 2009) وتلبسته حالة العناد لينفي ذلك لكنه ندم بعد فوات الأوان في حوار إذاعي مع وجدي الحكيم نقل في كتاب (بليغ حمدي، أيمن الحكيم، 2001). ومن مصر إلى الجزائر ففي ذات الفترة في عهد الرئيس الجزائري هواري بو مدين (مواليد 1932) وحكم بين عامي (1965-1978) الذي أعادها إلى الغناء حين كلفها باحتفالات الذكرى العاشرة لاندلاع الثورة عام 1972، أصدر أمراً بعد معاهدة كامب ديفيد 1978 بوضع وردة في قائمة المغضوب عليهم ولفق لها أنها استقبلت المغني الفرنسي الجزائري الأصل اليهودي الديانة انريكو ماسياس، وأكمل حظره بأن يحذف في لافتات حفلاتها نسبتها إلى الجزائر حتى رفع الحظر عنها الرئيس الشاذلي بن جديد عام 1982، ودعاها لتحيي لإحياء ذكرى مؤتمر الصومام عام 1984 . وأما في عهد حسني مبارك ( مواليد 1928) وحكم بين عامي (1982-2011) تصادف أن كانت بعض أغنيات وردة بالإضافة إلى تعليقاتها العفوية الخارقة للتشريفات الرئاسية، وهذا ما حدث في احتفالات 6 أكتوبر عام 1996 عندما طلبت باسم الرئيس تصفيق الجمهور وشدت بأغنية " وجالك يوم" ففهم أنه المقصود ! تكرر الأمر في عام 1997 في ذات الاحتفالات حين شدت بأغنية " الله يجازيك"، ونبهت بذكاء بأنه لم يكن المقصود رغم أنه تلكأ مراراً في منح ولدها رياض الجنسية المصرية التي لم تمنح إياها مفضلة الحفاظ بجنسيتها الجزائرية. ورغم أن بلاط السياسة لم يكن على وفاق معها فإن بلاط صاحبة الجلالة الصحافة لطالما كان على النقيض ضدها في كثير من الأحداث. لا في فترات المرض العصيبة سواء حين أجرت عمليتي القلب 1979 و1998، ولا تعرضها لجلطة في الساق 1993 ولا زراعة الكبد 2001، ولا حتى توقفها بين عامي 2001-2004، ولا حتى أحداث مباراة مصر والجزائر عام 2009 ، ولا حتى صدور مجموعتها الغنائية الأخيرة "اللي ضاع من عمري" (2011). وينتهي الزمن.. يتساقط كل هؤلاء السياسيين أمام وردة التي أثبت الزمن أنها قاومت ذلك الاستبداد الذكوري، ضمن إطار واسع لمبدعين ومبدعات عرب شكلوا جبهة مقاومة ذلك الاستبداد الفاسد الذي نخر الجسد العربي في القرن العشرين. والآن تنام وردة مطمئنة بعد أن شهدت سقوط مجانين السياسة من كراسيهم العالية تحت صرخات شباب عرب يستعيدون "كرامة الإنسان العربي" المهدورة لسنين. إنها ثورات الشرفاء. التي تشهد على تغير خطير من داخل بنية الذهنية العربية. هو تغيير الأفكار والقيم والمبادئ. نحو وعي آخر يقفل صفحة القرن العشرين. يدشن بوابة كبيرة للقرن الواحد والعشرين. ليس في العالم العربي بل في العالم كله.