في الثاني والعشرين من ايار مايو 2012، قالت تقارير دولية إن حلاً بدأ يرتسم في الأفق لإعادة فتح الطرق الباكستانية أمام إمدادات قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) العاملة في أفغانستان، حيث أعطت الحكومة الباكستانية تعليمات إلى مفاوضيها باختتام المحادثات الدائرة مع الحلف بهذا الشأن. ان البيئة الاستراتيجية لأفغانستان، تشهد اليوم وضعاً خاصاً، وشبه انتقالي، ستؤثر في صورته النهائية منظومة واسعة من العوامل والمؤثرات، بينها ما هو داخلي، أمني وسياسي، وما هو خارجي، إقليمي ودولي وقد نُظر إلى هذا التطوّر باعتباره خطوة هامة على طريق إعادة تطبيع العلاقات الباكستانية الأطلسية. كما حمل دلالة ذات مغزى بالنسبة لخطط الانسحاب الأطلسي من أفغانستان، المقرر إنجازه بحلول نهاية العام 2014. بداية، يُمكن أن نشير إلى أن تصديقاً نهائياً على خطة الانسحاب الأطلسي من أفغانستان قد تم اعتماده في قمة الناتو، التي عقدت في شيكاغو، بالولاياتالمتحدة، في 20 – 21 أيار 2012. وأكد قادة الناتو تسليم مسؤولية الأمن في أفغانستان إلى القوات الأفغانية في منتصف 2013، لتنسحب قوات الحلف من البلاد بحلول 31 كانون الأول ديسمبر 2014. وقال إعلان صدر عن قمة شيكاغو: إن "حلف الأطلسي مستعد للعمل من أجل إنشاء- وبناء على طلب من حكومة كابول - قوة جديدة، ذات طبيعة مختلفة، في أفغانستان بعد العام 2014، من أجل تدريب وإرشاد ومساعدة قوات الأمن الأفغانية... وهذه القوة لن تكون قوة قتالية". وبالعودة إلى موضوع فتح الطرق الباكستانية أمام قوافل الإمداد المتجهة إلى قوات الناتو في أفغانستان، قال الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على هامش قمة الحلف، بأنه يشعر بأن بلاده وباكستان تحققان "تقدماً جاداً" في هذا الشأن. وكان أوباما قد أجرى محادثات مع الرئيس الباكستاني، آصف علي زرداري، الذي حضر مداولات قمة الناتو. في السياق ذاته، قال الإعلان الصادر عن القمة، إن حلف الأطلسي "يواصل العمل مع باكستان لإعادة فتح طرق المواصلات البرية بالسرعة الممكنة... وإن دول المنطقة، وخاصة باكستان، لها أدوار مهمة في إحلال السلام والاستقرار، والأمن الدائم، في أفغانستان. وفي تسهيل اكتمال العملية الانتقالية". ومن العقبات الرئيسية التي كانت تعترض مفاوضات الناتو مع باكستان، بشأن طرق الإمدادات، رسم العبور الذي طالبت به الأخيرة. فقد أفادت وسائل إعلام أميركية أن إسلام آباد طالبت بخمسة آلاف دولار عن كل مستوعب. وهو ما يزيد بثلاثين مرة عن الرسم المعتمد قبل إغلاق الطرق في تشرين الثاني نوفمبر من العام 2011، بعد ضربة جوية لحلف الأطلسي، على مركز حدودي في صلالة الباكستانية، قتل فيها 24 جندياً باكستانياً. واضطرت قوات الناتو منذ ذلك الحين إلى الاعتماد على النقل الجوي، واستخدام شبكة طرق شمالية أكثر طولاً وكلفة عبر آسيا الوسطى. ويأتي حالياً أكثر من 50% من الإمدادات اللازمة لقوات الناتو في أفغانستان عبر هذا الطريق. وقال الأمين العام للناتو، اندرس فوغ راسموسن، في تصريح أدلى به في شيكاغو، على هامش قمة الحلف، إن قطع طرق الإمداد في باكستان لم يكن له حتى الآن "تأثير كبير" على العمليات في أفغانستان. بيد أن الانسحاب التدريجي للقوات الدولية بحلول نهاية 2014، يطرح "تحدياً لوجستياً"، سيزداد تعقيداً، إن لم يكن من الممكن العبور من الأراضي الباكستانية. ويجري منذ العام 2003 إفراغ الشحنات التموينية والعسكرية، الخاصة بقوات الناتو العاملة في الأراضي الباكستانية، في ميناء كراتشي على بحر العرب. ثم تنقل من هناك براً إلى أفغانستان. ويتم هذا النقل بصفة أساسية عبر ممر خيبر الاستراتيجي، البالغ طوله خمسين كيلومتراً، والواقع في شمال وزيرستان. كذلك، يجري نقل قدر أقل من الإمدادات من خلال طريق آخر، يمر عبر مدينة كويتا، عاصمة إقليم بلوشستان، إلى مدينة قندهار، في الجنوب الأفغاني. وحسب البنتاغون، فإن حوالي 80% من الشحنات، وأربعين في المائة من كميات الوقود، المخصصة للقوات العاملة في أفغانستان، كانت تمر عبر الأراضي الباكستانية. وعلى خلفية وضع أمني بدا خارج السيطرة، ظلت قوافل الناتو عرضة لهجمات متكررة أثناء سيرها على الطرق الباكستانية. وفي 8 كانون الأول ديسمبر 2011، استهدف هجوم بالصواريخ موقفاً لشاحنات وصهاريج وقود تابعة للناتو، في مدينة كويتا، أسفر عن تدمير 34 شاحنة على الأقل. وكان الهجوم مصحوباً بإطلاق الرصاص من قبل مجهولين. وكانت 44 من شاحنات صهاريج الوقود، وشاحنات البضائع، متوقفة بشكل مؤقت في موقع في مدينة كويتا، بعد وقف إسلام آباد إمداد القوات الأطلسية في أفغانستان عبر أراضيها. وهذا الموقع هو أحد ثلاثة مواقع أنشأها الناتو في كويتا وضواحيها. وكانت إحدى أكبر الهجمات قد وقعت في السابع من كانون الأول ديسمبر عام 2008، حين هاجم مسلحون تجمعاً كبيراً لشاحنات الناتو في ممر خيبر، وأشعلوا النار فيها، الأمر الذي أدى إلى حرق أكثر من مائة شاحنة محملة بعربات ومعدات عسكرية متجهة إلى أفغانستان. وقد شارك في ذلك الهجوم نحو 250 مسلحاً، مزودين بالأسلحة الرشاشة والقذائف الصاروخية. وفي اليوم التالي، اقتحمت مجموعة أخرى مستودعاً تابعاً للناتو في المنطقة ذاتها، وأضرمت النار في نحو خمسين شاحنة أخرى. على صعيد الطريق الشمالي إلى أفغانستان، وقعت الولاياتالمتحدة، في الفترة الأخيرة، اتفاقيات خاصة مع جميع دول آسيا الوسطى، تسمح بنقل العتاد عبر أراضيها ومطاراتها خلال عملية الانسحاب من أفغانستان في العام 2014. وكانت كازاخستان قد صادقت منذ كانون الأول ديسمبر 2008، على مذكرة مساندة "عملية الناتو لدعم الحرية في أفغانستان"، التي تلحظ إمكانية هبوط طائرات الحلف في مطار العاصمة. وهناك أيضاً المركز الأميركي للترانزيت، المقام في مطار ماناس في قرغيزستان، الذي يُعد الأهم من نوعه في عموم المنطقة. من ناحيتها، قالت روسيا، في منتصف آذار مارس الماضي، إنها تدرس طلباً للناتو يتعلق باستخدام قاعدة في مطار فوستوتشني الروسي، لنقل الإمدادات اللوجستية من وإلى أفغانستان. ويقع هذا المطار على مشارف مدينة أوليانوفسك على نهر الفولغا، في الشطر الأوروبي من روسيا. وستصل الإمدادات الأطلسية إليه من غرب أوروبا عبر خطوط سكك الحديد. وقالت موسكو إن الخطة تقضي بالسماح للناتو باستخدام تلك القاعدة "ليس فقط لنقل المعدات والأجهزة، بل الأفراد أيضاً". وبعد معارضة أبداها الجنرالات والساسة القوميون، عادت موسكو لتقول إن عملية الترانزيت المقصودة سوف تقتصر على "شحنات لمواد ذات طبيعة غير قاتلة. وأن الحديث لا يدور حول نقل أفراد أو أسلحة"، كما أن شحنات الترانزيت الأرضية "ستجري عبر استخدام القطارات المدنية العادية". وكانت روسيا قد سمحت للناتو بالتحليق فوق أراضيها، للقيام بمهمات قتالية في أفغانستان عام 2001. وبعد ذلك، وقعت روسيا اتفاقية خاصة في إطار برنامج الشراكة من أجل السلام مع الناتو، تسمح لكل من ألمانيا وفرنسا باستخدام ممرات آمنة عبر أراضيها للوصول إلى أفغانستان. وفي تطوّر لاحق، أعطت روسيا، في تشرين الثاني نوفمبر 2008، موافقة نهائية لألمانيا لاستخدام أراضيها لنقل المعدات العسكرية إلى أفغانستان. وتقرر أن يتم ذلك بواسطة سكك الحديد الروسية. في السياق ذاته، كان قد جرى التداول قبل أعوام، في أروقة الناتو، في مشروع يقضي بإنشاء خط حديدي يربط أوروبا بآسيا الوسطى وأفغانستان، بناء على مبادرة قدمتها الولاياتالمتحدة. وكان يفترض، وفقاً لهذا المشروع، مد طريق حديدي يعبر أراضي كل من أوكرانيا وبيلاروسيا وروسيا وكازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان، وصولاً إلى أفغانستان. من جهة أخرى، وبموازاة الحديث الدائر بشأن الانسحاب من أفغانستان ومتطلباته اللوجستية، بما في ذلك قضية الممرات الآمنة، يدور حديث أكثر راهنية حول وضع القوات الأفغانية، ومدى استعدادها لتسلم الملف الأمني من قوات الناتو بحلول منتصف العام 2013. ووفقاً لمؤشرات تشرين الأول أكتوبر 2011، تضم قوات الأمن الأفغانية (الجيش والشرطة) ما مجموعه 306 آلاف عنصر، مقارنة بنحو 190 ألفاً في أواخر العام 2009. ومن المتوقع أن يرتفع عديد هذه القوات إلى 352 ألفاً بحلول تشرين الثاني نوفمبر من العام 2012. ويبلغ تعداد قوات الجيش الأفغاني وحده 170 ألف جندي. وعلى صعيد مشاريع التسليح، تقرر أن تزود القوات الأفغانية بطائرات ومروحيات عسكرية، وآليات ثقيلة ومركبات دورية، وأجهزة مراقبة واتصالات. وقال وزير الدفاع الأفغاني عبد الرحيم وردك، في 18 تشرين الأول أكتوبر 2011، إن بناء قوات وطنية قوية من الجيش والشرطة سوف يكلف نحو خمسة مليارات دولار سنوياً، بعد انسحاب القوات الأطلسية من البلاد عام 2014. ويعادل هذا المبلغ أكثر من خمسة أمثال العائد الداخلي للحكومة الأفغانية، المتحقق عام 2010. ونحو ثلث الناتج القومي الإجمالي للبلاد. وتفيد تقديرات دولية بأن القوات الأفغانية قد تحتاج إلى دعم مالي خارجي حتى العام 2025، ودعم فني ولوجستي لسنوات عديدة، بعد سحب القوات الأطلسية. وغير مفصول عن مقاربة سحب القوات، وقَّع الرئيسان الأميركي باراك أوباما، والأفغاني حامد كرزاي، في الأول من أيار مايو 2012، اتفاقية شراكة إستراتيجية بين البلدين، تتعهد بموجبها كل من الولاياتالمتحدةوأفغانستان بتعزيز التعاون الإستراتيجي طويل الأجل، في المجالات ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك الإسراع بإرساء السلام والأمن والمصالحة، وتقوية مؤسسات الدولة، ودعم جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أفغانستان على المدى البعيد، وتشجيع التعاون الإقليمي. وتنص الاتفاقية كذلك، على ضرورة الشروع في مفاوضات ثنائية بهدف التوصل إلى معاهدة أمنية في غضون عام، لتحل محل الاتفاقية الخاصة بوضع الجيش الأميركي، والأفراد المدنيين التابعين لوزارة الدفاع الأميركية، الموجودين في أفغانستان. وبموجب هذه الاتفاقية تمنح الولاياتالمتحدةأفغانستان صفة "حليف رئيسي من غير دول الناتو". وتلتزم الولاياتالمتحدة بعد عام 2014، وفقاً للاتفاقية، بالسعي للحصول على الأموال اللازمة سنوياً لتغطية تكاليف تدريب قوات الأمن الوطني الأفغانية، وتجهيزها بالمعدات، وتقديم المشورة والدعم لها. وما يُمكن قوله خلاصة، هو ان البيئة الاستراتيجية لأفغانستان، تشهد اليوم وضعاً خاصاً، وشبه انتقالي، ستؤثر في صورته النهائية منظومة واسعة من العوامل والمؤثرات، بينها ما هو داخلي، أمني وسياسي، وما هو خارجي، إقليمي ودولي.